شكري المبخوت، تاريخ التكفير في تونس، مسكيلياني للنشر تونس، 2018، 347 صفحة، الطبعة الأولى، ر.د.م.ك:0-003-24-9938-978.

 

في تقديمه لكتابه الأخير، تاريخ التكفير في تونس(مسكيلياني للنشر والتوزيع، 2018 )، ينبّه المبخوت القارئ إلى طبيعة دراسته قائلا: «إنّ مقصدنا من هذا الكتاب أن ننظر في السياقات والأبعاد والأفكار والتفاصيل التي حفّت بالقضايا التكفيرية الكبرى في تاريخ تونس" وينزّلها منزلة المحاولة الفكرية العامة وغير المتخصّصّة .فعلا، إنّ تاريخ التكفير في تونس ليس أثرا تأريخيا لأن مادّته السّردية التي اشتغل عليها المبخوت – أعني الأحداث التي حفت بسِيَرِ الثعالبي والحدّاد وبورقيبة-تكاد تكون اليوم معلومة بعدما أُشبْعتْ دراسة من قبل المُدرّسين والمؤرخين ومدوّني السير و الشهادات طيلة العشريات السابقة. لذلك، يحيل المبخوت باطّراد على تلك المدوّنة الواسعة التي تناولت علاقة المصلحين الثلاثة بالمسألة الدينية عموما وعلى تأويلاتهم المقاصدية والتنويرية لأحكام النص القرآني تحديدا. كما أردف فصول كتابه بملاحق تحتوي على بعض الوثائق الأساسية ذات الصلة مشيرا، هنا وهناك، إلى وثائق أخرى لم يتسنّ له أن يطّلع عليها جزئيا أو كلّيا وهي، في أغلبها، تعالج مواضيع ثانوية أو مجاورة لمبحثه الرّئيس. لم يستحضر المبخوت هذا الكم الهائل من النصوص المرجعية إيفاء منه بواجب الأمانة الفكرية فحسب بل حرصا منه أيضا على ضرورة التموضع في حقل معرفي مشترك كتب فيه الكثيرون.

 

 

 

1- التكفير: السينوغرافيا التونسية

يذكّر المبخوت بأنّ التكفير ظاهرة سلبية توارثناها عن الذهنية العربية الإسلامية التقليدية التي «لا تعترف إلاّ بالشبيه والمُمَاثل" وتُقصي "المختلفَ" و"االمناقض". بيد أنّه لم يتوقف طويلا عند الموروث الحضاري العام بقدر ما انكبّ على سيناريوهات التكفير و تخريجاته التونسية. فالتعميم في هذا المجال، على مشروعيته الكبيرة، لا يسمح للمتأمِّلِ الآن في تاريخ العقلية التونسية أن ينفذ إلى حيثيات التكفير ودوافعه المحلّية، لا سيما إلى ما خَفِيَ أو أُخْفِيَ منها عن الأذهان.

فلأنّها شكّلت قضية محورية وقائمة بذاتها في تاريخ فكرنا المعاصر، وجب الربط بين مراحلها الرئيسية عبر السِّيَرِ الثلاث من جهة، وإخراج معاني التكفير من دائرة الدّلالة الدينية التي أُرِيدَ لها أن تُحْبَسَ فيها، من جهة أخرى. وقد تطلّب التحقيق في هذين الاتجاهين من المبخوت جهدا مضاعفا للنأي بخطابه عن"البداهة الظاهرة". في واقع الأمر، لست من أهل الاختصاص لأصْطَفِيَ في الكتاب جديدَه من قديمِهِ كما أنّي لن أتكلّم لِمَامًا أو أنطق باسم عموم القرّاء. فلكلِّ قراءة فردية حصيلتُها، ولا أُنكِرُ أنّ حصيلتي من تاريخ التكفير في تونس كانت وفيرة وصوّبت من نظرتي للقضية برمّتها وللشخوص الفاعلة فيها، مكَفِّرين(بكسر الفاء) ومُكَفَّرين(بفتحها) على السواء.

لقد راوح المبخوت في دراسة الملفّات الثلاثة بين قراءة تفكيكية للمواقف (أفكارا وأقوالا وأفعالا) وخطاب سردي تأليفي مبيّنا، في الآن نفسه، خصوصيات كل مرحلة. إنّ التكفير، في معناه المُتَدَاوَلِ، هو دعوى تجريمية وسالبة للحياة تطلِقُها المؤسّسة الدينية ضدّ كلّ مسلم يجاهر بموقف مخالف «للتصوّر السائد في مسألة تبدو مستقرّة وثابتة حسب التأويل الرسمي للنص القرآني" فتتَّهِمُه بالمروق عن الملّة المحمّدية وتشهِّرُ به تحضيرا لمحاكمته طبقا للشرع الإسلامي وعادة ما تنتهي المحاكمة بتتويبه أو بإعدامه. وقد يفضي التجييش ضدّ المُكَفَّرٍ (بفتح الفاء)، كما يحدث اليوم، إلى استصدار فتوى رسمية يطلقها شيخ من الشيوخ مجيزا فيها للعامّة هدرَ دم" المارِقِ". يدحض المبخوت جانبا من هذه المقاربة العامة لأنّها تخصّ بالتكفير الدوائرَ الدينية دون غيرها وتغيّب عن قصد أسبابا وأدوارا وأبعادا أخرى في القضية. بل يعتبر هذا التحديد الحصري ضربا من ضروب المغالطة الفكرية التي تهدف إلى شرعنة التكفير حيث يقع إخراجه إخراجا دينيا صِرفًا فيبدو كما لو أنّه ردّة فعل طبيعية ممّن نذروا أنفسهم للدّفاع عن الله والذودِ عن أحكامه القطعية في القرآن.  فيافطة التكفير، كحكم فقهي، تخفي الجزء الأكبر والأخطر من جبل الجليد. صحيح أنّ اتّهام الثعالبي ثم الحدّاد بالرّدّة قد صدر بدءا عن المؤسّسة الدينية ولعب فيه شيوخ الزيتونة وقضاتها دورا محوريا لا سيما في محاكمتها للأوّل وفي حصارها المُمَنهَج للثاني بدعوى "حماية المعنى الديني والحفاظ على استمراره والدّفاع عن أصل الشريعة"، فإن لم تتمكّن، تحت ضغط القوى الحقوقية الفرنسية، من الحكم على الثعالبي بالإعدام، فقد نجحت في إقصاء الحدّاد من الحياة العامة، فأحجم الرجل عن الكتابة وانقطع عن الشأن العام طيلة عشر سنوات قبل أن يقضي نحبه مكمودا ومنبوذا. فكانت موتة مدنية طويلة أشدّ عليه من قطع الرقبة.

ولكن ما كان، في كِلاَ القضيتيْن، لإعلان مروق الرجلين عن الملّة أن يحشدَ جانبا هاما من الرأي العام ضدّهما آنذاك لو لم تنخرط في الترويج له دوائرُ إعلامية بدعم كامل من نظام الباي. يكشف الكتاب، فيما يكشف، عن التناغم والتنسيق بين الوزارة الكبرى والمؤسّسة الزيتونية سنة 1904 لترتيب، أو بالأحرى، لتلفيق ملف الإدانة ضد عبد العزيز الثعالبي. كما يفسِّر المبخوت بالتواريخ والأسماء كيف تورّط أعضاء من اللجنة التنفيذية للحزب الحر الدستوري، خاصة محي الدين القليبي، في حملة 1930 ضد من نعتوهم آنذاك ب «عصابة الحدّاد". فوظّفوا أيّما توظيف دعوى التكفير الديني في الخصومة السياسية. لا ريب أنّ القليبي الذي ينتمي إلى النخبة السياسية التقليدية ذات المرجعية الدينية القوية قد صُدِمَ بالطرح الاجتماعي للحدّاد حول المرأة والأسرة صدمة هائلة، فلا غرابة إذا أن يكون قد انخرط في ذلك التشهير الغاضب بالكتاب. بيد أن ملاحقته للرجل ولكتابه بتهمة الإلحاد ملاحقة لصيقة وغير مسبوقة يندرج أيضا في سعيه الحثيث إلى قطع الطريق أمام زعامة سياسية منذوره كانت ستؤول إلى الحدّاد، لا سيما قبيل رحيل الزعيم الثعالبي من جديد إلى الشرق.

كما أنّ تكفير الطاهر الحداد، وهو أصيل بلدة الحامّة، لم يكن بمنأى عن الصراع الاجتماعي المحتدم داخل المؤسّسة الزيتونية ذاتها حيث ما انفكّ الزيتونيون الوافدون من داخل الإيالة أو الُمتَحَدِّرون من أصول اجتماعية متواضعة يرفضون احتكار بعض العائلات الحضرية الكبيرة للوظائف الدّينية والتعليمية والقضائية. إن دوافع الصراع التي أدّت إلى مصادرة امراتنا في الشريعة والمجتمع واتهام كاتبه بالرّدّة، كما أبرزها المبخوت، متعدّدة الجوانب استوجبت تسليط الضوء على مواطن التقاطع فيها. لقد تضافرت العوامل وتداخلت كخيوط الشبكة العنكبوتية لتجعل منه صراعا مجتمعيا شاملا بين أغلبية تقليدية وزمرة قليلة من المُحْدِثين.

2- المسار المدني في تونس بين التطوّر والانعطاف

في تحليله لسيناريو التكفير من 1904 إلى سبعينات القرن الماضي، يؤكّد شكري المبخوت، كسابقيه من الداّرسين، على الترابط العضوي بين المشاريع الفكرية للمصلحين الثلاثة بصرف النظر عن أوجه التباين بينهم. فمن المعلوم أنّ الخلاف السياسي كان على أشُدِّه بين بورقيبة والحزب القديم بقيادة زعيمه التاريخي عبد العزيز الثعالبي. كما أنّ بورقيبة، المحامي والسياسي، لم يعاضد الطاهر الحدّاد في صراعه الفكري ضدّ المحافظين سنة 1930. لكن كان ثلاثتهم على قناعة فكرية مشتركة وراسخة بأنّ الإصلاح الشامل يمرّ حتما بالإصلاح الديني وبالتصدي للنخبة التقليدية (الزيتونية بالخصوص)، التي كانت تتشبّث بفهم متَوَارَثِ ومتحجّر لأحكام القرآن أعاق طويلا عصرنة المجتمع التونسي ولا يزال. فبعدما اضطلع الثعالبي بدور المصلح الديني المستنير في بداية القرن، فتح الحدّاد، في الثلاثينات، باب الاجتهاد من جديد ووسّع مجاله وعمّق مُساءلته النقدية لأحكام الشريعة ليشمل خطابه أحوال الأسرة والمجتمع. ويمكن أن نعتبر من هذه الزاوية مُدوّنةَ الأحوال الشخصية التي فرضها الحبيب بورقيبة في أواخر الخمسينات، أو في جانب كبير من ترسانتها القانونية، تتويجا لحلقات مترابطة وسمت النضال المدني التونسي في النصف الأول من القرن العشرين. وقد أحدث بورقيبة، بنجاحاته وإخفاقاته، انعطافا مصيريا وقفزة زمنية ونوعية في تاريخه.

في الفصل الأخير من الكتاب، أعاد المبخوت تركيب المشروع البورقيبي برمّته لما له من أهمّية بالغة في فهم آلية التكفير وفي إبراز طابعها السياسي ربّما أكثر من الملفّين السابقين. خلافا لتكفير الثعالبي ثم الحدّاد الذي جاء، في كلّ مرّة، كردّة فعل كاسحة وآنية من شيوخ الزيتونة ولفيفهم الاجتماعي والثقافي، فأنّ تكفير بورقيبة لم يتزامن مع صدور تلك المجلّة التي نزلت على التيارات الأصولية في العالم العربي نزول الصاعقة، بل جاء متأخرا عنه بأكثر من خمسة عشر سنة. كما أنّ دعوى تكفير بورقيبة لم تصدر عن المؤسّسة الزيتونية بل أطلقتها بعض المجامع الإسلامية العالمية في سبعينات القرن الماضي بعد أن تجاهل الرّئيس التونسي نداءاتها المتكرّرة له بإعلان التوبة.

إن الفارق بين السيناريو الأخير وسابقيْه بيّنٌ وأسبابه تكاد تكون بديهية. لقد حمت السلطة السياسية بورقيبة ضدّ المكفِّرين التقليديين في الدّاخل. كان مشروعه، في واقع الأمر، أكثر تحدّيّا لدورهم واشدّ خطورة على نفوذهم آنذاك من المشروعين السابقيْن. فكانوا، منطقيا، سيعلنونها حربا شعواء على بورقيبة لو لم يعتلِ سدّة الحكم في «ظرف استثنائي" ولو لم يستفد من تلك المُحَصِّنات العديدة التي يتمتّع بها الحاكم في الثقافة العربية الإسلامية كالواجب الديني بطاعة أولي الأمر وغيرها. فلم يكتف النظام السياسي الجديد ب «كسب صمتهم" معتمدا في ذلك على مشروعية الاستقلال وزخمه الشعبي. لقد استفاد كذلك رئيسه، الحبيب بورقيبة من "نفس شروط الاستبداد في الحضارة العربية الإسلامية ليصنع سياقا تاريخيا حديثا فعلا. فالحاكم المسلم المستبدّ يتكئ على الدين ليبني موقعه السياسي ويدافع عن مصالحه مستغلاّ جيش الفقهاء ورجال الدين المستعدّين للتبرير وتوظيف النصوص في كل الاتّجاهات. ولم يفعل بورقيبة في علاقته بالدّين غير هذا طيلة حياته."

في هذا المجال، يفنّد شكري المبخوت الدعاية التي أشادت طويلا بسماحة وبوسطية المؤسّسة الزيتونية مُستدلّة في ذلك بمساهمة محمد العزيز جعيط وآل بن عاشور في صياغة مدوّنة الأحوال الشخصية. في حين أنّ المدونة المذكورة، مقارنة بالاجتهاد العميق الذي قام به الحدّاد في كتابه، لا تنِمُّ عن مجهود فقهي يُذْكَرُ. لقد اكتفى الشيوخ بانتقاء نصوص من القرآن والسنّة لتبرير الإصلاحات التي كان بورقيبة قد عزم على وضعها موضع التنفيذ، وربّما قبلوا توظيفهم سياسيا أيضا مجاراة للتّيار أو دفعا للحرج واتِّقاء لشرّ السلطة الفتية. «وأكبر وهم ينبغي أن يُقاوم الآن، فيما يحذِّرُ المبخوت، هو أنّ مجلّة الأحوال الشخصية كانت وليدة اجتهاد فقهي مزج بين ثوابت النص المرجعي ومقتضيات التطوّر التاريخي". فإذا كان بورقيبة قد اعتمد منهج الإقناع في "جهاده الأكبر" بواسطة بيداغوجيا الخطاب والاتصال المباشر، فقد كان يعوّل أكثر، لتمرير إصلاحاته المثيرة للجدل، على المباغتة وسرعة الإنجاز سعيا منه لإحداث رّجة في العقول بقوّة القانون. فكانت مجلة الأحوال الشخصية وكانت تبعاتها التي نعرف.

من وجهة نظري، لقد خَلُصَ المبخوت في هذه المحاولة الفكرية إلى أمرين هامّين يتّصل الأوّل بسينوغرافيا التكفير إذ كشف من خلال تحقيق متانّ عن الدور المحوري الذي لعبته السلطة السياسية ودوائرها الموسّعة في تضخيم الدّعاوى التكفيرية وفي تحجيمها. لكنّ المُنْجَزَ الأهم في تاريخ التكفير في تونس يكمُن في جانبه السردي. عبر روايته الموثقة والمُبسّطة لـ"حيثيات" القضايا الثلاث نسج المبخوت قصّة النضال المدني التونسي وصاغ خيوطها في سردية متكاملة بدءا بأحاديث الثعالبي الجريئة ضد شيوخ الإسلام والأولياء الصالحين في مقهى التوتة سنة1904 ووصولا إلى هرج ومرج تلك الليلة المشهودة في بداية 2014 والتي انتهى المجلس التأسيسي ذو الأغلبية الإسلامية في هزيعها الأخير إلى تضمين حرّية الضمير وتجريم التكفير في الدستور الجديد. إن الحيثيات، لا سيما الأحداث الصغيرة والهامشية منها، هي بمثابة الطُحْلُبِ الذي يُنعش الذّاكرة ويغذّيها لتبقي سردية النضال المدني "لحمةً حيّة" في الوجدان العام.

3- الدونكيشوتيون الجدد وفرضية الانكسار:

ينبّه المبخوت إلى أنّ صراع المجتمع المدني التونسي ضد التّيار الدّيني سيكون طويلا وشاقّا لكنّه يبدي قناعة كبيرة بانتصار القيم المدنية والمواطنية على أحكام الشريعة في القضايا العالقة مثل المساواة في الميراث وغيرها مستندا في ذلك إلى ثقته في المسيرة المدنية التونسية الفريدة وإلى إيمانه بحتمية التطوّر التاريخي وانتشار الثقافة الحقوقية في أرجاء المعمورة. صحيح أن المبخوت تناول أساسا تمَظهُرَ التكفير في القضايا التاريخية الثلاث واعتبرها «فصلا" من "قصة" مفتوحة على تطورات قادمة. بيد أنّ تمثُّلَه للجماعات الأصولية يستوجب تعديلا كبيرا ولا يستقيم إلاّ بإحكام الربط بين ماضي التكفير في تونس وحاضره.

قد يؤلمك، وأنت تقرأ تاريخ التكفير في تونس، أن الطاهر الحدّاد، أبَ المجتمع المدني التونسي، هرب بجلده ولاذ سنة 1930 بالحمية القبلية في غياب السند الشعبي لنضاله.  وقد تحزّ في النفس محنة سلفه، عبد العزيز الثعالبي، فتحمد الله على نجاته من إعدام كاد أن يكون محتوما بعد أن استهدفه شيوخ الزيتونة وأعيان الحاضرة المسنودون بجمهور غفير من رواد المقاهي الشعبية ومن عديمي الثقافة. لكن ما أشبه اليوم بالبارحة. بل إنّ انشغالنا بهذه المعضلة بات الآن أكبر وأشد.

رغم تجريم التكفير دستوريا في مستهلّ 2014، لم ينفكّ التيار الديني يفعّل آلياته بنفس المقولات وتحت نفس الذّرائع. يتكرّر سيناريو التكفير باستمرار مستهدفا في كل مرّة سياسيين ومثقّفين ونشطاء في المجتمع المدني وكأنّ التاريخ يعيد نفسه وكأنّه كُتِبَ علينا، كما كُتِب على الثعالبي والحداد وبورقيبة، أن نصطلي بنار تلك الدّعاوى.

يمرّ شكري المبخوت سريعا على هذه "المُعَاوَدَةِ" فلا يرى فيها إلاّ دليلا على "الدّوران في حلقة مفرغة"، وكأنّ اندحار هذه التّيارات التكفيرية بات، إن آجلا أو عاجلا، من تحصيل الحاصل. أخشى أن يكون المبخوت قد سلّم هنا، على غير عادته في الكتاب، بحكم «البداهة الظاهرة" إذ لا يعدو تقييمه أن يكون تعبيرا بلاغيا جرى، من كثرة التداول، مجرى الحقيقة التاريخية.  فإنّ الدّوران والمُعاودة، في تاريخ التيارات الأصولية، هي أفعال إرادية لا تعبّر بالضرورة عن عجز هذه التيارات مواكبة العصر بقدر ما تمثّل شرطا أساسيا لاستمرارية وجودها عبر الزمن المديد. فإعادة التكفير، كباقي الإعادات، لا تقوم على فراغ ولن تفضي بهذه الحركات، خلافا للاعتقاد السائد، إلى العدم أو الانحلال. بل إنّ التيار الديني في تونس يُعوّل على المعاودة كلّما استعصى عليه النيل من حياة "المارق" أو لم يسمح له الظرف بالإلغاء الحاسم والسريع للمنجز الحداثي والمخالفِ لأحكام الشريعة. لم ينالوا من بورقيبة أيام حكمه ولكن ما فتئوا بعد الثورة يلاحقون إنجازاته (التنظيم الأسري والإجهاض، التبني، إلغاء الأوقاف، إلخ.) ملاحقة متواترة فيقْضمون ويقَلِّمُون ما خرج منها عن الحدود الفقهية وينالون من هذه الإنجازات في كل كرّة، ولو بنصيب. لقد اكتسب التيار الديني في "دورانه" المعهود قدرة فائقة على تغيير أساليبه لاحتواء كل مستحدث وامتصاصه.  إنه يجاهد الزمن لا لتحسين مردوده بل لتحصين موروثه. فتدعّمت مناعته في العهد الدّيمقراطي دون أن يُدْخِل تغييرا يذكر على "برمجيّته" الفكرية. أُطْلِقَ العنان سنة 2011 لجمعيات دينية تعجّ بالتكفيريين تحت مُسَمّيات مدنية ويافطات قانوننية تنضح سماحة ك «الأخوّة" و"التكافل" وتلتحفّ بلحاف علم الاجتماع الحديث مُحَوِّلة وجهة المحاضرات حول التنمية البشرية والعمران إلى دروس في فقه الحدود الإسلامية.

أخشى أن يغيب واقعُ التكفير اليوم عن أذهان الحداثيين كما غابت حقيقة طواحين الرّيح عن بصيرة دونكيشوت. كان بطل ثيرفانتيس الشهير ضحية أوهامه المضحكة إذ مرّ في رحلته العجيبة ذات يوم بطاحونة هوائية هائلة خالها عملاقا من تلك الكائنات الخرافية التي كان قد قرأ عنها في الكتب القديمة. فقرّر أن يقارعها بحدّ السيف رغم المحاولات المريرة من معاونه صانجو لثنيه عن ذلك المسار.  فكانت تلك النهاية المثيرة للضحك في الرّواية ليس فقط أمام صانجو بل لدى كلّ قرّاء الدنيا ليبقى دونكيشوت محلّ مهزلة أبدية.

لكن ما يهمّنا في قضية الحال أنّ دونكيشوت أصرّ على أن يتمثّل الطاحونة على غير ما هي عليه واستبدل الآلة المحسوسة والمعلومة من الجميع بوهم من صنع خياله. يذكّرني المشهد، في معنى من معانيه، بحال التنويريين التونسيين إزاء محاضن التكفير الجديدة. نحن أيضا، معشر الحداثيين، في صراعنا التاريخي مع "الفرقة الناجية" أصابنا شيء من عته دونكيشوت من حيث لا نشعر إذ نمعن في رؤية محاضن التكفير الجديدة كمظهر من تجلّيات الديمقراطية الناشئة. بل يبدو أنّنا في ورطة تاريخية غير مسبوقة. فإذا نجح المجتمع التونسي ونخبه الحداثية في تكريس التعامل الديمقراطي ونبذ الإقصاء كقوام للحياة المدنية، فإنّه لا يزال عاجزا عن استنباط وسائل تُوقِفُ طواحين التكفير عن الدوران.

شعبان الحرباوي