في الذكرى الثانية لوفاة المؤرخ التونسي صلاح الدين التلاتلي حوار نادر معه قبل وفاته (1916-2009).

أظنُّ أنَّ حَيَاتِي صلُحَتْ لِشَيْءٍ وَهْوَ كِتَابَةُ التَّارِيخِ وَتَدْرِيسِهِ.

 

يعتبر المؤرخ التونسي صلاح الدين التلاتلي المولود في 2 جانفي 1916 والمتوفى في 02 جانفي أيضا 2009 أحد رجال الفكر والتربية والنضال الوطني في تونس الحديثة والمعاصرة نشأ في عائلة علم وتربية وكان والده الصادق التلاتلي مدرسا ثم متفقدا عاما للتعليم بتونس. درس في الصادقية ثم في معهد كارنو على امتداد الفترتين الابتدائية والثانوية، وإثر حصوله على الباكالوريا واصل دراسته بمنبيلييه (Montpellier) بفرنسا وتحصل على الإجازة في التاريخ والجغرافيا وفي جوان 1938 نال ديبلوم الدراسات العليا في الجغرافيا، وكان محور دراسته حول جربة والجربيين (Djerba et les Djerbiens).

وفي السنة الموالية تابع في باريس مناظرة التبريز وتتلمذ على أيدي كبار الأساتذة الفرنسيين المختصين ممن تركوا بصماتهم في شخصيته العلمية ومنهم ديمانقو (Demangeot ) وبيغانيول (Pganiol ) وجول سيون (Jules Sion).

عند اندلاع الحرب العالمية الثانية عاد إلى تونس وتم تعيينه في أكتوبر 1939 أستاذا للتاريخ بالمعهد الصادقي ثم واصل التدريس بمعهد كارنو انطلاقا من أكتوبر 1940 وفي سنة 1942 صدر له كتاب حول جربة وحرر له المقدمة الباحث الفرنسي جون ديبوا (Jean Despois) وظل يدرس بهذا المعهد على امتداد سبع وعشرين سنة.

في سنة 1942 وعندما كانت الحرب العالمية الثانية في أوج التهابها ساهم في تأسيس عديد المجلات، مثل مجلة "المباحث" ثم مجلة "إفريقيا الأدبية" (l’Afrique litteraire) ومجلة "حكمة" التي صدرت بتونس ومجلة "الكور" (Forges) بالجزائر وقد اشترك في بعثها إلى جانب ألبار كامي (Albert Camus) وهنري بوسكو (H. Bosco) وصديقه ايمانويل روبلاس (Emmanuel Robles).

تولى الكتابة العامة لجمعية أساتذة التاريخ خمسة عشر عاما (1942-1957). وكان مساهما في أنشطة معهد قرطاج (Institut de Carthage).

غداة الحرب العالمية الثانية (1945) كان من المؤسسين لنقابة التعليم الثانوي وانتخب كاتبا عاما لها وكان إلى جانب فرحات حشاد مساهما في مسيرة الاتحاد وفي سنة 1947 كان من مؤسسي جريدة "تونس الفتاة" (La Jeune Tunisie) وأحد أفراد هيئة إدارتها وتم الإعلان على صفحاتها عن تونس المستقلة ورفض الاستعمار والهيمنة.

كان من سنة 1948 إلى غاية سنة 1956 أحد أعضاء اللجنة التنفيذية التابعة للحزب الدستوري القديم ثم صدر له كتاب تونس الجديدة (La Tunisie nouvelle) حلل فيه وضع البلاد التونسية من جميع الجوانب وذلك بعد مرور سنة على استقلال تونس (1957) ثم أصدر سنة 1961 كتاب تونس الديمومة (Tunisie de toujours). ثم صدر له بعد ست سنوات كتاب جربة جزيرة اللوتوفاج (Djerba l’île des Lotophages).

تولى إدارة المعهد الوطني للآثار والفنون (L’Institut National d’Archéologie et de l’Art) سنة 1967 وتمكن رغم قلة الإمكانيات من تحقيق إنجازات في مجالات البحث وإحداث المتاحف والصيانة خصوصا في جهات الجم والقيروان والمنستير والكاف ومكثر وقد وجد هذا المؤرخ والجغرافي في حقل الآثار والمتاحف مجالا ممتعا للبحث والتأليف وأصدر انطلاقا من سنة 1970، سلسلة منشورات حول المدن التونسية العتيقة : دقة وتيبوربوماجيس ومكثر وجكتيس (Gigktis) لقد فتن بقرطاج وزادته إقامته بها تعلقا بتلك الحضارة الشامخة ومحّض لها أطروحة ناقشها بجامعة السربون (Sorbonne) سنة 1977 ووسمها بـقرطاج البونيقية دراسة حضرية، المدينة وظائفها وإشعاعها ونشرها في سفر كتاب وقد طبع هذا الكتاب كل من وزير الثقافة وقتذاك الأستاذ الشاذلي القليبي والأستاذ جلبار شارل بيكار (Gilbert Charlety Picard) المختص الدولي في الحضارة القرطاجنية واعترافا لهب التميز في أبحاثه القرطاجنية منحت له فس سنة 1979 جائزة إفريقيا المتوسطية.

كان للأستاذ صلاح الدين التلاتلي الفضل في نزع القداسة التي كرسها المحتلون الرومان لقرطاج وأبرز خلود الحضارة التي أسستها قرطاج على درب التقدم والتحضر(1).

مرت سنة على وفاة هذا العالم والوطني المؤرخ والجغرافي دون أن يحظى بالتعريف الشافي(1) أو بإبراز مساهمته في الحركة الوطنية وفي الأبحاث التاريخية والجغرافية الخاصة بتونس وقد أتيحت لي يوم 11 سبتمبر 2007 فرصة زيارته في منزله بقرطاج رفقة المؤرخ يونس وصيفي فكان لنا معه هذا الحوار الذي سلط فيه الأضواء على بعض مؤلفاته ومواقفه من عدد من الأشخاص والقضايا، وقد كدنا نيأس من العثور على هذا الحوار لأنه تاه في خضم الوثائق والكتب والملفات، وتجدر الإشارة إلى ما كان عليه الأستاذ التلاتلي يومها من تعب وخيبة أمل ومرض أنهك قواه لكنه أجهد نفسه للبوح ببعض ما كان يختلج في صدره وأرانا رغم صعوبة تنقله صورة والده الصادق التلاتلي المعلقة في قاعة الاستقبال وظل طيلة الحوار مولّيا وجهه شطر البحر الذي تعانقه السماء، حيث المطلق والسرمد واللانهاية...

السؤال : هل لكم أن تعرفونا بمسيرتكم دارسا ومدرسا ؟

الجواب : دَرَسْتُ بالصادقية وبمعهد كارنو ودرست بهما أيضا وواصلت دراستي الجامعية بباريس وسعيت إلى متابعة دروس مناظرة التبريز لكن الحرب والتدريس شغلاني عن مواصلة تلك الدراسة وكذلك الشأن بالنسبة إلى محمود المسعدي وعندما أُحِلت على التقاعد سنة 1967 واصلت إعداد الدكتورا وقد كان موضوع أطروحة دكتورا الدولة حول قرطاج البونيقية وقد أشرف عليّ الأستاذ جاك بيكار (Jacques Pickard) وتمت مناقشتها في رحاب جامعة السربون ونلتها بملاحظة مشرف جدا وكان ذلك في سنة 1974 وقد حررت مادتها في تونس (بقرطاج حيث الآثار والمآثر القرطاجنية).

درّست كثيرا من أبناء تونس وكان لي شرف تدريسهم التاريخ وفتّحت بصائرهم على صفحات مجهولة منه وجل الوزراء درّستهم، من أمثال أحمد بن صالح والشاذلي القليبي لقد درست شبيبة كاملة من تلامذة مهدي كارنو والصادقية ومما أثلج صدري عندما حضرت مؤخرا عقد زواج، التفاف قدماء تلامذتي بي ثم قال لي أحدهم وهو الأستاذ زكرياء بن مصطفى :"لست أستاذي فقط بل أنك أنت الذي علمتني التاريخ وحبّبته إلينا، بل إنك حبّبت إلينا أكثر من ذلك وهي الوطنية (Patriotisme) إنك علمتنا عشق الوطن".

إنني عندما أدرّس التاريخ، أسعى إلى إفهام تلامذتي الرموز التي يوحي بها التاريخ وهو ما يسرني دائما وأظن أن حياتي صلحت لشيء وهو كتابة التاريخ وتدريسه إن والدي الصادق التلاتلي (1871-1950) قدوتي وقد كان من مؤسسي الخلدونية، ولا أخفي سرا إذا قلت إنني أنا الذي حررت للصادق الزمرلي الترجمة الخاصة بوالدي في كتابه أعلام تونسيون (تقديم وتعريب الأستاذ حمادي الساحلي) ط.1، بيروت : دار الغرب الإسلامي 1986، صص : 277-279). ولقد كان الصادق التلاتلي ممّن زاول دراسته بكل من المعهد العلوي ودار المعلمين بتونس (القرجاني) وتحصل بعد ذلك على الشهادة العليا للغة العربية ثم التحق بكلية الحقوق بمدينة ايكس آن بروفنس (Aix en province) وأحرز على الإجازة وانضمّ إلى سلك التعليم سنة 1892 وانطلقت مسيرته في التدريس برتبة معلم ثم صار أستاذا للعربية بمعهد كارنو وأستاذ الفرنسية بدار المعلمين ثم انضم إلى صديقه البشير صفر لتدريس الرياضيات والجغرافيا بالجمعية الخلدونية وقد تولى سنة 1908 بتكليف من مدير التعليم العمومي شارلتي (Charlety) مهمة إحداث التعليم الابتدائي العربي وتنظيمه وتفقده وقد انقطع لهذا الواجب الوطني وظل ساعيا إلى نشر المبادئ الإسلامية والثقافية والوطنية وغرس القيم الإسلامية الخالدة في نفوس الشبيبة التونسية.

لقد جمع والدي بين العمل الاداري (ظل مدة ربع قرن متفقدا للتعليم) والتأليف المدرسي، وهو صاحب كتاب : "الطريقة العصرية" وقد طبعه في جزئين وأسس عشرات المدارس وسعى جاهدا إلى إصلاح الكتاتيب وتدريس اللغة العربية في المدارس الفرنكو-عربية وفق أحدث الأساليب البيداغوجية.

كنت مثل والدي مولعا بالعمل الجمعياتي وقد شاركت في أنشطة نادي قدماء تلامذة الصادقية وكان العنابي [محمد علي] صديقي ولقد قدمت محاضرة في رمضان احدى السنوات حول غاندي نشرت لاحقا في المجلة الصادقية ثم جعلتها كتابا.

من الرجال الذين اعتز بهم أيضا في أسرتي، عمّي الدكتور محمد التلاتلي الذي كان له دور هام في المنظمات الثقافية والاجتماعية التونسية وكان من أول الأطباء التونسيين وكان وطنيا يدافع عن المطالب التونسية في صلب المجلس الكبير ويناقش الميزانية ويطالب بتوفير الرعاية للأمومة (Maternité) وطالب ببناء مستشفى للنساء (التوليد) فرد عليه الدكتور بران (Bran) -وكان جراحا ذا نزعة استعمارية- قائلا : العرب لا يحتاجون إلى مستشفى للنساء" Les Arabes n’ont pas besoin de maternité". وبرر ذلك بأن نساء العرب يلدن دون حاجة إلى طبيب وقد قاوم الدكتور التلاتلي تلك المواقف الاستعمارية الأنانية وناضل طويلا من أجل توفير أقسام للتوليد وناضل طويلا من أجل توفير أقسام للتوليد وقد كتبت مقالة مناصرة لذلك في جريدة لابراس بعنوان : "أبوة الأمومة" Paternité de la maternité".

وتجدر الإشارة إلى احتدام الصراع بين بران والتلاتلي فتسبب ذلك في جلطة مات بسببها الدكتور بران وأصيب الدكتور التلاتلي بعده بثلاثة أيام بجلطة أيضا وكان يقول لي بأنه سيموت من جراء تلك المشاجرة وقد ترك بعض الآثار، واسمه موجود اليوم في مستشفى عزيزة عثمانة وفي أحد مستشفيات نابل.

إن من أروع الذكريات في مسيرتي العلمية ما قاله لي رئيس لجنة مناقشة أطروحتي وهو أحد كبار علماء فرنسا المحدثين- وكان السيد الهادي المبروك في الصف الأول- "إنك تتحدث كما لو كنت وطنيا قرطاجنيا" فأجبته : "سيدي الرئيس، لقد قدمتم لي أثمن شهادة تقدير".

السؤال : أثريتم المكتبة التونسية بمؤلفات أكاديمية وتاريخية تلقفها القراء بلهفة وقد ارتبطت بها أحداث وملابسات غير معلنة فهل يمكن البوح بما هو مكتوم ؟

الجواب : اهتممت بصفة خاصة بجزيرة جربة ووضعت فيها كتابا سميته بـ: جربة جزيرة الليتوفاج (سيراس 1967) (Cérès 1967) (Djerba l’Ile des Lotophages) ولهذا الكتاب قصة مرتبطة بأهل جربة الذين يأكلون شجرة اللوتوس (Le lotos) وهي شجرة تنبت بجربة ودوائرها وسُمّي أهل جربة بآكلي اللوتوس (Mangeurs de lotos).

وانطلقت في كتابي بالحديث عن الرحالة "أوليس" الذي تحدث عن تلك الشجرة وذكر أوليس أن أهل جربة طيبون ويفرحون بالضيف إذا حل بديارهم ومن يأكل من تلك الشجرة يصبح مثلهم وأضاف أوليس، من يأكل منها لا يخرج من تلك الجزيرة.

ولي كتاب آخر حول جربة والجربيين وهو دراسة مونوغرافية جهوية وبه مقدمة "جون ديبوا" (Djerba et les Djerbiens, monographie régionale, préface de Jean Despois, Tunisie, 1942) وقد صدرت من هذا الكتاب طبعتان (20.000 نسخة سرعان ما نفدت) وفي سنة 1957 صدر لي كتاب تونس الجديدة مشاكل وآفاق (تونس 1957).

(Tunisie nouvelle, problèmes et perspectives, Tunis 1957) وقد ترجمه محمد السويسي فصدر عن دار بوسلامة للنشر سنة 1959 وسبب ظهور هذا الكتاب أنه في هذه السنة اتصل بي السيد بشير بن يحمد في منزلي (و قد تم تعيينه وزيرا) وطلب مني ترجمة كتابي تونس الجديدة إلى العربية لنشره في مطبعة علي بوسلامة وسلمت النص مجانا لصاحب المطبعة وسُحبت من الكتاب عشرة آلاف نسخة باللغتين وقد أراد السيد بن يحمد أن يصدر الكتاب باسم تونس الفتاة (La Jeune Tunisie) فرفضت وطلبت إثبات اسمي ثم قلت له إن شئت قلد المقالات وأصدر الكتاب...

ومما ألفته أيضا تكريسا لمبدإ التحرر والتمسك بالحرية كتاب غاندي محرر الهند وطبع سنة 1969.

(Gandi, libérateur de l’Inde, Tunis 1969).

لقد كتبت بعد الاستقلال كثيرا من المقالات في جريدة لابراس وجمعتها في كتاب سميته بـ"كتابات من أجل الجمهورية (مطابع أليف، 1991)، (Ecrites sur l’Indépendance Elif, 1991) وأضفت إليها كتابات هامة لعدد من الوطنيين التونسيين ومنهم صالح فرحات وأحمد بن ميلاد وفريد الصحراوي والشيخ محمد نعمان والحبيب بورقيبة والحبيب الشطي ومحمد الفاضل ابن عاشور وغيرهم وأعتقد أن هذا الكتاب الذي ضم مقالات هامة حررت من 1946 إلى غاية 1956، أفضل كتبي وفيه حقائق وآراء صائبة وهامة وأخطر تلك المقالات عنوانها : "الأيام التي صنعت الاستقلال".

"Les jours qui ont fait l’Indépendance".

إن في هذا الكتاب "كل شيء بالمكشوف" ويضمّ خلاصة حياتي السياسية وهو هدية إلى أرواح رفاق دربي.

لقد كرست أكثر من نصف قرن من حياتي من أجل تونس واستقلالها وأعتقد أن تونس تستحق أكثر مما هي عليه وأحيانا أقول لنفسي حسبك الصمت وكفاك تعمقا وتساؤلا...

إني كتبت أيضا عن الايطاليين في تونس ومعاهدات لوفال –موسيليني وطبع الكتاب في باريس سنة 1938.

(Les Italiens de Tunisie et les accords Leval-Mussolini, Paris 1938).

كما أن ما نشرته من كتب لا أثر له تقريبا في المكتبات فهل كان ذلك من قبيل الصدفة ؟ !!!

لقد أصدرت كتبا ومجلات ومع ذلك جفننا من خالفنا الرأي أحياء رغم أننا ناضلنا من أجل تونس، وقد يأتي يوم يكتب عني فيه كتاب.

السؤال : ألفت أكثر من ثمانية كتب فماذا عن المجلات والجرائد التي أسهمت في إصدارها؟

الجواب : لما كنت أستاذا بمعهد كارنو التقيت بأحد الأصدقاء وكان ذلك سنة 1937 وقد بيّن لي أن الحماية في تونس تحولت استعمارا وتساءل أين شخصيتنا؟ واتفقنا على أن نناضل من أجل فرضها واسترجاع حريتنا وبعد عشرة أيام أسسنا جريدة "تونس الفتاة" La Jeune Tunisie ثم عربها الرشيد ادريس وفتحنا في وجه نظام الحماية واجهة وبعد ذلك بسنة أصدرنا جريدة الأمة التونسية (La Nation Tunisienne) وقد قاومني الاستعمار الفرنسي وأتباعه وأوقفوني ولم يمنعني ذلك من إصدار جريدة الاستقلال (L’Indépendance) وكان ذلك سنة 1951 وكان لتلك الصحيفة دور في تشريع زوال نظام الحماية، وكانت تباع في باب البحر وقد كان الباعة يتعمدون إطلاق أصواتهم باسم تلك الجريدة فكان لذلك وقع المظاهرة وقد تم إيقافي باعتباري موظفا في مؤسسة تخضع للرقابة الفرنسية، وثمة تونسيون قاوموني لأنني كنت من أنصار الشيخ عبد العزيز الثعالبي وآمنت بفكرة الاستقلال التام التي اجتمعت عليها كلمة الطلائع التونسية في مؤتمر ليلة القدر الذي التأم يومي 22 و23 أوت 1946 وقد كتبت في شأنه نصا استحضرت فيه وقائعه ونشرته بجريدة لابراس بتاريخ 12 فيفري 1988 وصدرت به كتابي كتابات حول الاستقلال الذي سلف ذكره (Ecrits sur l’Indépendance) (ص ص : 25-35)، أما قيادة الدستور الجديد فإنها لا تطلب الاستقلال التام وإنما الاستقلال الداخلي وهو ما اعتبرناه معاهدة باردو الثانية وكنت من المؤمنين بضرورة تلازم الاستقلال الداخلي والخارجي وانضممت إلى أعضاء اللجنة التنفيذية المناوئين للديوان السياسي الذي يتزعمه بورقيبة وقد ساندني وصوّت لي صالح فرحات وفتحت لهم باب الجريدة (الاستقلال) وجعلتها جريدة الحزب الدستوري القديم وكنا جميعا ننادي بالاستقلال التام...

بعد الاستقلال، جمعوا كتبي وقد قاومني الحزب الجديد، أما علاقتي مع "الزواتنة" فهي علاقة "اليد في اليد" وقد شاركت في عدد من المظاهرات التي نظمها أولئك "الزواتنة".

السؤال : خالطت كثيرا من الوطنيين والمثقفين التونسيين وتراوحت علاقتك بهم بين المد والجزر فماذا بقي في الذاكرة ؟

الجواب : من الأصدقاء الذين درسوا معي، الأستاذ الهاشمي البكوش (مولود في سنة 1917) فهو "فدلاكجي" وقد خالطته قليلا في معهد كارنو، أما الزعيم الحبيب بورقيبة فلي معه مراسلات وكذلك مع مناضلين آخرين، وأعرف عنه أشياء لا يمكن ذكرها... أما مدير المعهد الصادقي فقد وقعت لي معه حادثة في السنة الدراسية 1939-1940 مفادها أنني وجدت تلميذا يبكي فأشفقت عليه وذكر لي تلامذتي أن أحدهم كتب على السبورة : "تحيا تونس، تسقط فرنسا" "Vive la Tunisie à bas la France" فقرر المدير رفت ذلك التلميذ رفتا نهائيا ومن جميع مؤسسات التعليم وعندما التقيت بذلك المدير راجيا التراجع عن قراره، أصر على موقفه فطلبت اجتماع الأساتذة، وصدر قرار جماعي بعدم الموافقة على الرفت، ونصحت ذلك التلميذ بالانتماء إلى التعليم الزيتوني للوصول إلى مستوى الباكالوريا ثم يلتحق بمعهد اللغات الشرقية بباريس وأذكر أنه بعد أعوام طويلة عانقني شخص اشتعل رأسه شيبا وأنا في ساحة الجمهورية وذكر لي أنه ذلك التلميذ المرفوت وأنه عمل بنصيحتي وواصل دراسته العليا بفرنسا وتحصل على التبريز في العربية ثم أصبح مدرسا بالصادقية التي طرد منها ظلما.

كنت من المشاركين في مؤتمر ليلة القدر وهو مؤتمر الاستقلال وقد اجتمع بنا جلولي فارس ونزلنا من الصادقية في اتجاه الأسواق وموج العساكر حولنا متلاطم ثم دخلنا "دار عري" وكان صالح فرحات يخطب خطبة طويلة ورنانة وسرعان ما فاجأنا العسكر وهجم علينا وجعلنا قبالة الحائط والرشاشات في اتجاهنا، أما صالح فرحات فقد استمر بشجاعة يخطب ويردد قوله :"نحن نطالب بالاستقلال التام"، وقد كُتِبَتْ عريضة في هذا الشأن، وقبل نهاية كلمة صالح فرحات قفز العسكر من السطوح للحصول على الخطبة فسارع بعض الدستوريين بخطف الخطبة من يد صالح فرحات وتنقلت من سطح إلى سطح ونجت ثم هجم العسكر وأوقف الجميع، لقد نجوت وهرب صالح بن يوسف بالعريضة...

أما الباهي الأدغم فقد كان يحترمني كثيرا، إنه كان رجلا مستقيما وكان مغرما بالتاريخ كنت أزوره في أميلكار وكنا نقوم بجولات بين أميلكار وقمرت وقد شبعنا تاريخا لقد كان وطنيا حقيقيا...

تلك هي إذن صفحة من ذاكرة أحد أعلام تونس الحديثة والمعاصرة، عاش بين ظهرانينا زهاء قرن وصرف قلمه ومهجته وفكره وزهرة شبابه دفاعا عن تونس وتاريخها وهويتها وترك آثاره التي تدل عليه، رحل عنا في صمت والقلب تعتصره اللوعة وكأنه لم يكن شيئا مذكورا...

كنت على يقين بأن ذلك الوطني الذي أخذت عينه الثاقبة من البحر ازرقاقه وحاكت قامته المديدة شموخ آثار قرطاج واقتبست وجنتاه رغم هطول الأسقام حمرة الشمس عند الأصيل، ظلّ-عَبَثًا- ينتظر اليوم الذي ينفض الغبار عنه وعن أمثاله من أولي الفضل الذين قدموا لهذا البلد الطيب عصارة فكرهم لا يبغون جزاءا ولا شكورا.

فتحي القاسمي

برج العامري

فجر يوم 04/01/2010

(1) صدر في شأنه مثال هام استفدنا منه في جريدة لابراس بتاريخ 11/01/2009، ص 4 وآخر لسعيد المستيري في مجلة حقائق (Réalités) بتاريخ 15-21 جانفي 2009، ص 58-59.

Mis à jour ( Lundi, 14 Mars 2011 17:15 )