الحرقة، الشاذلي مبارك، رواية،  دار الجنوب للنشر، "عيون المعاصرة"،224 صفحة.

رواية "الحرقة" هي أوّل إنتاج سردي للكاتب الشاذلي مبارك، صدرت عن دار الجنوب للنشر سنة 2012 ضمن سلسلة «عيون المعاصرة» التي يشرف عليها الأستاذ توفيق بكار، وهي رواية من الحجم المتوسط، عدد صفحاتها 224 صفحة. قدّم لها الأستاذ جمال الخليفي.

 

 

وقد وردت الرّواية في عشرين فصلا، لكل فصل عنوان منفرد، تجمع بينها وحدة الموضوع الحرقة، ووحدة الإطار العام المكاني والزماني الذي يدور جلّه حول البحر، باعتباره جامعا بين متناقضات يعدّدها الكاتب، ويوظّفها في أنساق سردية متفاوتة بين السّرعة والهدوء؛ فالبحر يجمع بين الوجع واللذّة، وبين اليأس والحلم، وبين الانكسار والأمل وبين الشّتات والعودة، وبين الموت والحياة (...) ويتعمّق التناقض كلما تقدّم السرد حتى لكأن البحر يغدو مكانا فاصلا بين يباس الأرض التي تجسّد الواقع المؤلم في الوطن، و''طراوة'' السماء التي تمثّل الحلم المغري والمتمنّع والموغل في الخيال.

الرّواية ترتكز شكلا على عنصر البطل المطلق ''تكتوكة''، فيلبسه الكاتب نفس سمات البطل الكلاسيكي، فهو مدار السّرد، وهو محرّك الأحداث، وهو ذاكرة القول والفعل، يستعين به الكاتب على النصّ، فيستبطن فيه كمّا هائلا من الوجوه، ويحوّله إلى شخصية جماعيّة تتمثّل في حشود ''الحرّاقة'' الذين يركبون لوح الموت الذي يطوّح بهم في البحر فلا هم يمضون إلى صفاء الحلم ولا هم يعودون إلى ''الوطن الحبيب''. ويلوح البطل بطلا بخيباته وبانكساراته وبمغامراته الخاسرة، وتصدق فيه شهادة الرّاوي ''هو بطل مـﭬـربع في مخّو'' .

الحرقة" رواية واقعيّة، تطفو فوق أبعاد ثقافية وفنّية،يبرع الكاتب في إتيانها بأسلوب مميّز، لكنّها تغرق في هموم اقتصادية وسياسية يوميّة حدّ الاختناق، هي واقعيّة ''صادمة'' من كلّ جوانبها؛ فالحرقة خيار شباب ''ضحايا في زمان كلب''، قرّروا مواجهة الموت بدل البقاء في وطن استنفد كل خياراتهم، ولفظهم عاطلين مهزومين ويائسين، مكوثهم موت بطيء ورحيلهم موت محتمل، هروبهم من الموت إلى الموت ومن الضّياع إلى الضّياع، هي تجربة قاسية يتلاشى خلالها الحلم بالسيّارة والزوجة الشقراء، ويحل محلها الحنين للوطن واٍلى حضن الأم.

 

تلك الواقعيّة انعكست على طريقة الكتابة، وعلى نمط الحوار بين الشّخوص، فلم يكن أقل قسوة من الواقع، ولا أقل جرأة من مواجهة الموت، فانفلتت لغة الرّواية باتّجاه اللّهجة العامّية التّونسية الهامشيّة النّابية والسّاخطة، التي تتفلت من المتوقّع، ولا يحدّ من فلتانها سوى وعي الكاتب الذي كثيرا ما يكبح جماحها، فيستعيض عن العبارة المعروفة بانزياح يخفف من وقعها من مثل ''يا آش باش يقول فمّي'' و''يا قحشة'' (...) ويستولي الكاتب على دفّة اللغة في مواضع كثيرة من السّرد، فيحوّلها إلى مستوى شعري حالم ومتألّق، ويكسبها طاقة اٍيحائيّة عالية، ويسندها بحضور هام لنصوص الشابي والمسعدي ودرويش والمتنبي والمعري والنّواسي والهمذاني. فتغدو اللغة الرّوائيّة في" الحرقة" جزءا من الشكل وجزءا من المعنى في آن واحد، فكما أن البحر يطوّح بأحلام الحرّاقة بين قسوة الواقع وبحبوحة الحلم، يطوّح الكاتب بتوقّع القارئ بين جفاف العبارة وقسوتها تارة، وبذخ اللّغة وشاعريّتها تارة أخرى.