صدر كتاب ''ملامح من إلهيّات ابن رشد، بحث في طبيعة تصوّر ابن رشد لله'' للباحث رمضان بن منصور، في تونس عن دار سحر للنشر، في جانفي 2014، وهو كتاب في مئة وثمانين صفحة من الحجم الصغير. هو بحث لصيق بالمتن الرّشدي ويعتمد على النّصوص بشكل مكثّف، فيستقرؤها، ولا يكاد يخرج منها إلى غيرها من المصادر إلا في لمحات خاطفة، يوظّفها في أقسام الكتاب توظيفًا براغماتيًّا يستفيد منه لاحقًا في متن الدّراسة. فنجده يعمد إلى المقارنة بين ابن رشد (520 هـ – 595 هـ) وابن سينا (370 هـ – 427 هـ) أحيانًا، غير أن ذلك سرعان ما ينتهي ليعود الباحث إلى صلب النّصوص الرّشدية، ويعمد أحيانًا أخرى إلى استحضار الكلام عن أرسطو، لتبيّن الأصول الفلسفيّة للتفكير الرّشدي، أي المسائل الإلهيّة كما استقبلها ابن رشد من أرسطو ومن شرّاحه الهلنستيّين والعرب وقام بإعادة رسمها وتصحيحها، لكن ذلك لم يأخذ حيّزًا واضحًا من اهتمام الكاتب.

 

ولعلّ اقتصار الكتاب على مسائل الإلهيّات يتنزّل ضمن البحث في جزءٍ من كل، وهو تمهيد لمعرفة آراء ابن رشد في مسائل مخصوصة كالمنطق والفلسفة والعلم الطبيعي، يبدأه رمضان بن منصور بالبحث في مسألة الإلهيّات من خلال هذا الكتاب، ذلك أن مسألة الإلهيّات لا تمثّل في الحقيقة سوى جزء من المتن الرّشدي الذي يتميّز بثراء مطالبه الفلسفيّة من جهة المضمون، وبتنوّع أنماط الكتابة فيه من جهة الشّكل، وهما صفتان عرضهما بن منصور في مقدّمة كتابه وبيّن كيف أن ابن رشد يفْضُل بهما غيره من فلاسفة الإسلام، من حيث استحداثه لنصوص فلسفيّة ذات أجناس كتابية لم تكن موجودة في التقليد الفلسفي العربي السّابق عليه. فقد انفتحت كتابات ابن رشد على مسائل متعدّدة ومختلفة كعلم الكلام وعلم أصول الفقه وعلم النّحو وصناعة الشّعر وصناعة الخطابة وصناعة المنطق وعلم ما بعد الطبيعة وعلم التّعاليم وعلم الطبيعة والعلم المدني، وغيرها من العلوم. ولم تأتِ هذه المسائل عند ابن رشد منمّطة في جنس كتابي واحد، بل تراوحت بين التّفاسير والتّلاخيص والجوامع والمقالات فضلاً عن المؤلّفات المستقلّة.

ويحيل هذا الثّراء في المضمون على تنوّع في الكيفيّة التي يعبّر بها ابن رشد عن تصوّراته الفلسفية في كل مسألة ضمن أشكال خاصّة من الكتابة، وهو ما جعل الكاتب ينطلق من تساؤل مفصليّ في بحثه، يهمّ مدى تجانس طرائق عرض التّصوّرات والاعتقادات من أثر إلى آخر ضمن المدوّنة الرشديّة. كما يحيل على توزّع المسألة الواحدة في عدّة مواضع من تلك المدوّنة، فتخرج عن سياقها الخاص وترد مبثوثة عرضًا ضمن مسائل أخرى، بغضّ النّظر عن تنوّع مضامين تلك المسائل واختلاف مراميها.

ويقدّم الكاتب ضمن هذا السّياق، بحثه في مسألة ''الإلهيّات'' أو ''علم ما بعد الطّبيعة'' على أنّها إحدى أهم المسائل التي أثارتها الفلسفة الرّشدية، بل الفلسفة العربيّة الإسلامية؛ فالإلهيّات هي العلم الذي موضوعه الأمور الإلهيّة المفارقة من جهة طبيعتها. وينقسم البحث فيه إلى أبواب كبرى؛ من ذلك باب النّظر في الذّات الإلهيّة، وباب النّظر في الصّفات، وباب النّظر في الأفعال. وتتفرع عن هذه الأبواب مسائل تمثّل محاور ثابتة في البناء العام للإلهيّات. ومن ذلك أن باب النّظر في الذّات الإلهيّة يشمل طرق إثبات الوجود الإلهي وصيغ البرهنة على وحدانيّته. أما باب النّظر في الصّفات، فيحتوي بدوره على تحديد طبيعة الصّفات الإلهيّة وتحديد طبيعة علاقة الذّات بالصّفات. ويحتمل باب النّظر في الأفعال البحث في مسألة حدوث العالم، ومسألة بعث الأنبياء والرّسل، ومسألة الجور والعدل، ومسألة العناية الإلهيّة...إلخ.

ويوزّع بن منصور الإشكاليّات التي يبحث فيها الكتاب في ثلاثة مطالب؛ يهتم أوّلها بالبحث فيما إذا كانت طبيعة الإلهيّات جدلية أم برهانيّة. أمّا المطلب الثّاني، فيطرح إشكالية المنهج؛ أي مدى اختلاف مسلك التّعليم المتّبع في الإلهيّات عن بقيّة مسالك العلوم الأخرى. ويبحث المطلب الثالث في البراهين المستخدمة في الإلهيّات، وفيما إذا كانت أدلّتها ضروريّة يقينيّة أم ممكنة ظنّية. وقد اقتضى ذلك البحثَ في تصوّر ابن رشد لله قياسًا ببقية التّصورات الكلامية، الأشعريّة تحديدًا، والمعتقدات الفلسفيّة، ابن سينا خاصّة، مع موازنتها بشروط البرهان وسِبارات الجدل، كما ضبطها التّقليد الفلسفي الأرسطي في هاتين الصّناعتين. أما مطلب البراهين المستخدمة في البرهنة على الأمور الميتافيزيقيّة، فهو ذلك التّمييز الذي يشير إليه ابن رشد بين مسالك الفلاسفة القدامى، وطرق فلاسفة الإسلام، واعتقادات المتكلّمين من جهة تفاوت قوى اليقين السّارية في الأدلة والبراهين.

ولعل هذه المسألة هي التي تطرح إشكال علاقة إلهيّات ابن رشد بكل من إلهيّات ابن سينا وأرسطو من جهة، وعلاقتها بالنّظريات الكلاميّة الأشعريّة من جهة أخرى. وهو الأمر الذي اعتمد عليه رمضان بن منصور في تحديد خصوصيّات الإلهيّات الرّشدية عن غيرها من إلهيّات فلاسفة الإسلام. وقد مكّنه ذلك من البحث في بعض ملامح تصوّر ابن رشد، وهي ''ملامح'' من جهة أن البحث يقتصر على النّظر في الذّات الإلهيّة وصفاتها ويُعرض عن مسألة الأفعال الإلهيّة.

ينقسم كتاب''ملامح من إلهيّات ابن رشد، بحث في طبيعة تصوّر ابن رشد لله'' إلى قسمين رئيسين: قسم أوّل، ينطلق من نظريّة الألوهيّة كما عرضت في آثاره: "فصل المقال"، و"الكشف عن مناهج الأدلّة"، و"تهافت التّهافت". ويبحث بن منصور في متون تلك الكتب عن طريقة إثبات الوجود الإلهي، وإثبات الوحدانيّة، وإثبات الصّفات، وبيان علاقة الصّفات بالذّات. وقسم ثانٍ يمثل إعادة تشكيل لما تم عرضه، ومن ثم الانفتاح على مؤلفات لها علاقة مباشرة بتعاليم الفلسفة الأرسطيّة، مثل تفسير ما بعد الطّبيعة، وشرح كتاب" النّفس" لأرسطو، وجوامع ما بعد الطّبيعة، والسّماع الطّبيعي، وغيرها.

ويتوزع القسم الثّاني من البحث على أربعة فصول: يهتمّ  الأول منها بإبداء جملة من الاستنتاجات والملاحظات تخص نظرية الألوهية كما عرضها ابن رشد في مؤلفاته، من ذلك الوقوف على الإشكال التالي: هل تعكس الاختلافات بين هذه الكتب، من حيث طبيعتها ومضمونها ومقصدها، اختلافًا في طرح النّظرية ذاتها من كتاب إلى آخر، أم إن ابن رشد يجانس النّظرية، حيث تمّحي الفروقات الموجودة بين مؤلَّف كلامي موجّه إلى الجمهور، يفحص في أصول العقائد؛ أي الكشف، ومؤلَّف فلسفي يهتم بعرض أصول الفلاسفة في الاعتقاد؛ أي التّهافت؟ وأفرد الباحث فصلاً ثانيًا ينظر في شبهة لحقت بابن رشد، وهي كونه "مجرّد شارح للحكيم، تابع له، لم يأتِ لا بجديد يذكر ولا بقديم يشكر، وإنّما يعود الفضل إليه في كونه شرح ما غمض، وأبان ما ستر في أقاويل أرسطو". ولمّا كانت الميتافيزيقا هي العلم المرادف تقريبًا لـ"ما بعد الطّبيعة"، كانت الإلهيّات مقامًا مناسبًا لإزالة الشّكوك العالقة بفلسفة ابن رشد، وذلك برسم التّقاطعات بين ما يعتقده المعلّم الأوّل أرسطو، وما يذهب إليه الشّارح الأكبر ابن رشد في بعض مسائل العلوم الإلهيّة.

وقد خصّص الباحث فصلاً ثالثًا وازن فيه بين إلهيّات ابن سينا وإلهيّات ابن رشد، وغاية الموازنة، كما عبّر عنها الكاتب، هي الوقوف على إمكان وجود قواسم مشتركة أو تقاطعات بين إلهيات كل واحد منهما. ومن ثم الوقوف على خصوصية التّصوّرات الفلسفيّة لابن رشد في الذّات الإلهيّة قياسًا مع بقية فلاسفة الإسلام، ابن سينا على وجه التّدقيق.

أما الفصل الرابع، فأفرده لمسألة مزج الفلسفة بعلم الكلام في تاريخ الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، اعتمادًا على الإشارة التي ذكرها ابن رشد في كل من تفسير "ما بعد الطّبيعة" و"التّهافت"، والتي تُحمّل الشيخ الرئيس ابن سينا مسؤوليّة خلط الأمور الإلهيّة البرهانيّة بكلام الأشاعرة الجدلي. وقد اقتصر الباحث في مسألة مزج الفلسفة بالكلام على ما يتعلّق بالعلوم الإلهيّة دون الانشغال بالعلوم الطبيعيّة، أو بالعلوم المنطقيّة، وسبب النّظر في الخلط الواقع بين الكلام والفلسفة في المسائل الإلهيّة يجد معناه في كونه يثبت التّهمة التي ألحقها ابن رشد بابن سينا، وهي أنّه أوّل من غيّر، من بين فلاسفة الإسلام، تعاليم المعلّم الأوّل في العلوم الإلهيّة، حتى صارت علومًا ظنّية بعيدة عن اليقين.

إن مسألة الإلهيّات التي حاول الباحث رمضان بن منصور الوقوف على بعض ملامحها في كتابه، ليست تامّة أو شاملة، ولم يدّعِ  كمالها. إلا أنّه حاول توطين الرّؤية العامّة التي انطلق منها في بحثه، في سياق ما سمّاه محمد عابد الجابري بـ''استنباتات رشديّة عربية إسلامية''، تريد العودة إلى مقاصد ابن رشد الأولى التي أعلنها في كتبه المستقلّة، بعيدًا عن القراءات الإيديولوجية، والاستشراقية، لذلك نجد أن الكاتب قد غيّب كثيرًا من المناهج والدّراسات الغربيّة التي خاضت في فكر ابن رشد وفلسفته، وبحثت فيه من زوايا تأثّر ابن رشد بالفلسفة اليونانية والتّأثير الذي مارسه على الثّقافة الغربية، وما أنتجه ذلك من تفاعل علميّ وفلسفي وثقافي لا يمكن فصله عن تصوّر مسألة الإلهيّات، وتمثّل الإنسان لها، ومدى تأثيرها في واقعه الحضاري. ولم يبدِ الكاتب اهتمامًا بتلك المناهج، رغم مروره السّريع على قراءات إرنست رينان E. Renan ، وليون غوتييه L. Gauthier، وسليمان مونك S. Munk، معلّلا تجاوزَها بأنّها، حسب رأيه، لم تعد منسجمة مع معطيات المتن الرّشدي المتوفّر إلى حد اليوم. (ص 171)

كما لم يولِ الكاتب اهتمامًا في دراسته لمسألة الإلهيّات الرشديّة إلى التنوّع الكبير الذي وٌوجِهت به أفكار ابن رشد في الغرب أولاً والشرق ثانيًا. فالذين اهتموا بفلسفة ابن رشد قد انقسموا إلى فئات؛ منهم من كان يستشهد بآراء المتكلمين لنقض أفكاره في الإلهيّات، وتحريم كتبه ونبذ المذهب العقلاني. ومنهم من كان يدرس الفلسفة الرشدية طلبًا للمعرفة ومنهم أيضا من كان يستخدم أفكار ابن رشد لمحاربة الإكليروس وكشف مزاعمهم وخداعهم معتمدًا على عقلنة الإلهيّات. واستغلّ فريق آخر الفلسفة الرشدية لأغراض أيديولوجيّة، فكان يقتطع ما يوافقه من آراء ابن رشد ويتجنّب ما يدعو إلى التّوفيق بين الحكمة والشّريعة، فنتج عن ذلك تصوّر كان له أثر كبير غربًا وشرقًا مفاده أن الفلسفة العقلانية عدوّة للدّين.

والحقيقة أن الكتاب لم يتعمّق في  مسائل الخلاف الجوهريّة التي ميّزت تعامل المسلمين مع أفكار ابن رشد، رغم إصراره على التّعامل مع المسائل الإلهيّة في الفلسفة الرّشدية وانعكاساتها المباشرة على الفلسفة الإسلاميّة. لم يعقد ارتباطًا بين مختلف أسباب الخلاف، ولم يبحث فيها، مع أنّها تُعدّ من صلب البحث في مسألة الإلهيّات، وكان من شأن ذلك أن يوسّع في الحدود التي تقيّد بها الكاتب من خلال تعامله مع المتن الرّشدي، وينفتحَ أكثر باتّجاه الإحاطة بالتّصوّر الرّشدي الشّامل للإله والكون والخلق، خاصة أن مسائل الخلاف بين ابن رشد والغزالي (450 هـ - 505 هـ)، على سبيل المثال، كانت تشمل وجود الكون والخالق والفناء.

ومع ذلك، فإنّ التصاق الكتاب بالمتن الرّشدي وتتبّع مؤلّفاته بدقّة يوفّر للقارئ فرصة الوقوف عند إلهيّات ابن رشد من أبوابها الخاصّة، دون تداخل في الأفكار والمناهج والتوجّهات الإيديولوجيّة والفلسفيّة، القديمة منها والحديثة، التي كثيرًا ما تقع فيه قراءات المتن الرشدي. كما يوحي بنوع خاص من القراءة من داخل السّياق الموضوعي لأفكار ابن رشد دون إسقاط ولا إشادة أو استنقاص.

 

فيصل شلّوف