على غير العادة، لن أعرض هذه المرّة إصدارا تونسيا جديدا. كما أنّي، وخلافا لما قد يوحي به عنوان المقال، لن أكدّر صفو مزاجكم بالحديث عن نفسي.  نعلم جميعا أنّ خطاب الأنا، مهما كانت مسوّغاته، إنّما هو خطاب أنانيّ بالضرورة وثقيل جدّا على نفوس الآخرين. كلّ ما في الأمر أنّي أرغب في الإدلاء بشهادتي، كقارئ، حول إشكالية حضارية سال فيها حبر كثير وتهافت عليها المتهافتون، لا سيما بعد 2011، حتى أصبحت الكتابة فيها أقرب إلى الموضة الإعلامية منها إلى التناول الفكري الجاد.

 

فلا تسارعوا، إذا، بمغادرة الموقع وتريّثوا قليلا قبل الإبحار بعيدا في عالم الأنترنات الفسيح.

 

 

1- شهادة غير محايدة

لأنّني شديد الشغف بالدّراسات الفكرية حول الإسلام في علاقته بمقتضيات العصر كنت أتصيّد الفرص لاقتنائها كما كنت حريصا على التزوّد بجديدها سنويا في معرض تونس الدّولي للكتاب وفي حدود ما يسمح به جيبي المتواضع. ولقد سبق لي أيضا، في هذا الإطار، أن عرضت على صفحات هذا الموقع الأدبي وغيره من المواقع بحوثا أكاديمية تتناول شروط التحديث في العالم الإسلامي وأخرى فقهية خالصة تشرح، من داخل المدوّنة الدّينية، مقاصد النص القرآني وتحدّد مجالات التقاطع بين الشّريعة والعقيدة، إلخ، إلخ.

أتبيّن اليوم أنّ ذلك الفضول الفكري الكبير لم يكن، في واقع الأمر، حالة شخصية منفردة. لقد كنت أتقاسمه مع جلّ المهتمّين بالشأن الثقافي في البلاد. سأكون جحودا إذا لم أثمّن الدور الذي اضطلعت به ثلّة من المختصين في الإسلاميات خصوصا والإنسانيات عموما، إذ تصدّوا للمدّ الإسلاموي وعاضدوا، بالخطاب المستنير، المجتمع المدني التونسي. ورغم كلّ الملابسات التي سبقت الصياغة النّهائية لدستور 2014، فانّ تضمينه "حرّية الضمير" و"مدنية الدولة" يعدّ ثمرة لذلك النضال ولحظة تناغم بين الفعل المدني والإجرائي، من ناحية، والمجهود الفكري والنظري من جهة ثانية. فلا غرابة إذا في أن تولي النخبةُ العلمانية التونسية المدوّنةَ الدّينيةَ اهتماما استثنائيا في تلك الفترة.  بل كان من الضروري أيضا أن تشتغل مراكزُ البحث المختصّة ووسائل الإعلام اشتغالا مكثّفا على مضامينها.

2- من مخاطر الاستنفار

لكن توجّب علينا، ونحن اليوم على مسافة عشرية كاملة من انتفاضة 2011، الإقرارُ بأنّ ذلك الاهتمام كان أيضا وليدَ حالة من الذعر الجماعي. لقد تملّكنا هلعٌ شديد بعدما اكتسح الإسلام السّياسي الفضاء العربي عبر وسائل إعلام ذات انتشار عالمي قبل أن يظفر بالانتخابات في تونس ومصر. ثمّ أغرق دعاتُه وأنصارُه دورَ النشر ومسالكَ التوزيع وواجهاتِ المكتبات والسّاحاتِ العامّة بكتب تراثية وبمنشورات أخرى غريبة تشيعُ الشعوذة بين النّاس وتنذرهم بعذاب القبر وبفظائع ما أنزل الله بها من سلطان.  كان ذلك المدّ الكاسح ينذر بنهاية حلم التحديث في تونس، أو بالأحرى، هكذا عشت شخصيا وقع تلك السّنوات العصيبة. لقد كنّا في حالة استنفار قصوى وكأنّ السماء أطبقت على رؤوسنا. كانت النخبة الفكرية منخرطة في ردّة الفعل المدنية والمباشرة على الخطر الدّاهم فلم يتوفرّ لها، بالتّالي، لا الحيّز الزمني ولا المسافة النقدية الضرورية من الأحداث لتشرع في مراجعة الفكر التحديثي التونسي تحديدا والعربي عموما.

لا تزال هذه النخبة تقبع حدّ الساعة على رصيف الحداثة بتشنّج كبير وقد أنهكها سجالها الإعلامي مع المجاميع الأصولية التي تزدحم على الرصيف المقابل. إنّها تردّ على خطابهم المتكلّس بخطابها المعهود وعلى منشوراتهم الكثيرة بمنشورات لا تقلّ عنها شحنا ودعاية. وتتمسّك بشعار التعصير بقدر ما تسعى إلى تبرئة ذمّتها من تُهم سلخ التراث الحضاري أو مسخه أو فسخه. فلم تكن، جرّاء الأحداث المحبطة، بمنأى عن التسرّع والارتجال والتخبّط.  ولمّا كانت المطارحات حول الإسلام، ولا تزال، خطابا رائجا، اعتمد العديد من المختصّين في الدّراسات الإسلامية المعاصرة المنحى الاستعجالي كمنهج في العمل: يباشرون مبحثهم في عجلة من أمرهم كما يستعجلون نشر ما حبّروه في شأنها ولا يطيقون صبرا عن جدل المناظرات التلفزية والإذاعية. قد لا يرى البعض في هذا السلوك إلا ما يشينه كالانتهازية واستسهال العمل والاستخفاف بالمتلقي فيما يعتقد آخرون أنّ حضور هؤلاء في الإعلام حضورا لصيقا إنّما هو شرط من شروط التواصل في زمن السيبرنيطيقا. يقيني أنّ التّحديثيين، مفكّرين كانوا أو ومناصرين، لم يتخطّوا بعدُ تلك اللحظة الفكرية الصّادمة التي تلت 2011، بل إنّهم استبطنوها وظلّوا في حالة استنفار دائم ويزداد صخبهم حدّة من سنة إلى أخرى كمن يصرخ وهو يمسك بطوق نجاته الأخير.

لكنّ حبل التجديد والعصرنة، مثل كل الحبال، قد يُقطع من كثرة الشّدّ عليه لا سيما إذا لم نخفف من حمولته. أو بالأحرى إذا لم نكفّ عن تحميله ما لا يحتمله. لا يفوتني أن أستذكر، بالقياس، ما يقوله الأطبّاء اليوم في مجال المناعة الجسدية حيث أثبتت تجاربهم أنّه كلّما أُسْتُنْفِر جهاز المناعة استنفارا طويلا وشديدا لمقارعة المرض انقلب إلى الضّد محدثا في الجسم فوضى عارمة قد يصعب التحكّمُ فيها وقد تكون السّبب الرئيسي في هلاك المريض.

ثقافيا، يبدو أننا نعيش اليوم تبعات تلك "العاصفة المناعية" التي أحدثها الإسلام السياسي فينا إذ ما انفكّت تتكدّس على رصيف "الحداثة، وفي إطار حملة التوقّي من الأصولية، القراءاتُ في الشأن الدّيني تحت عناوين مختلفة وانخرط فيها، فضلا عن الأكاديميين، جحافلُ ممّن يلقبون ب«الخبراء الإعلاميين" ومن لفّ لفّهم. لا تراني أجازف بصدقيّتي النقدية، إذا قلتُ إنّ فيهم من لبس عباءة العصرنة ليستثمر في الخوف الجماعي من غول الأصولية وليتصدّر المشهد الثّقافي. فهو لا يتوانى في التكسّب ب «الحداثة" كما يتكسّب الدّاعية الإسلامي، نظيره في الطّرف المقابل، بالدّين وب"السّلف الصّالح".

لم تعد تستهويني هذه النوعية من الكتب ليس لأنّها تتضخّم، ككرة الثّلج، من سنة إلى أخرى فحسب وإنّما لأنّها أيضا تتناسل من بعضها البعض عبر مناظرات كلامية لا تنتهي وتتناسخ كاشفة بذلك عن هول النهب الذّي طال بعض الأطروحات الجادّة في هذا المجال. لقد ارتأيت، لا سيما في شهادتي على هذه الجوانب السّلبية، ألاّ أحيل على عناوين بعينها. لأنّ الشّواهد عليها، وإن كانت كثيرة، فإنّ دراستها تتطلّب دراية شافية بمجال الإسلاميات لا أدّعيها. غايتي في هذا المقال أن أوصّف حالة فكرية وشعورية أحدثتها في نفسي مطالعاتي للخطاب التحديثي المتعثّر على مدى عشريات طويلة وهي، مثل كل الحالات الشعورية، لا تخلو من مفارقات. إذ أصبحتُ اليوم أكثر إصرارا من ذي قبل على ألاّ أجهد نفسي كثيرا للاطلاع على مضامينها. ولا أخفيكم سرّا، معشر القرّاء، أنّي في بعض الأحيان، لا أتجاوز عنوان الأثر حتّى أسارع بمصادرة محتواه قائلا في صاحبه، بيني وبين نفسي، ما لم يقله محمّد الصالح بن مراد في الطّاهر الحداد عندما شهّر به "على الحساب" دون أن" يقرأ كتابه". أقرّ بأنّ مثل هذا التصرّف لا يشرّفني ويندرج في باب القرف الانفعالي. ما كنت سأُقْدِمُ على الاعتراف به لو لم تكن تحدوني رغبة حقيقية في طرح الإشكال الذي تثيره قراءة هذه المدوّنة المتورّمة تونسيا وعربيا.

بصرف النظر عن الطابع الذاتي لملاحظاتي، يبقى السّؤال المحوري مطروحا:

أين المُنجَزُ المدني والمجتمعي في الرّاهن العربي من ذاك الجهد الهائل، على المستوي النظري، لإصلاح واستصلاح الموروث الإسلامي؟

لست في حاجة إلى أن أكون مختصّا أكاديميا في الحضارة الإسلامية كي ألاحظ الهوّة السحيقة بين المنشود نظريا والموجود فعليا. فلقد شبعنا تفكيكا للمفاهيم وحلمنا طويلا بتقويض معوّقات التحديث الفكري والاجتماعي والسياسي وسئمنا الوصفات العامة التي لا تتوفّر على أدنى مقوّمات الإنجاز الفعلي في معيشنا. فكلّما ازدادت الفجوة اتساعا بين هذا وذاك ازددنا جفوة ونفورا من هذه الكتب.

أعيد طرح هذا السّؤال القديم –الجديد حول الحصيلة لأنّنا أصبحنا اليوم نعيش في محيط فكري موبوء ترتع فيه جماعات سلفية سائبة قد جعلت من نكران العقل عقيدة لها. وتبيّن لنا جليّا، بعد 2011 ، أنّ ما كنّا نخاله تراكما تحديثيا بات رُكاما سميكا يعمّق فينا أكثر فأكثر الشعورَ بالجذلان. لا يختلف اثنان في أنّ المعوّقات الاجتماعية والسّياسية كانت السبب الرّئيس في هذا الانكسار. لكن، ولأنّها كذلك، فإنّنا كثيرا ما نلتمسها كعذر يخفّف من مسؤولية النخبة الفكرية فيه، ناهيك أنّ أجيالها الأولى قد بذلت جهدا فرعونيا لبعث المشروع التحديثي. من منّا ينكر اليوم فضل طه حسين وعلي عبد الرّازق ومحمّد أركون وعابد الجابري وعبد المجيد الشرفي في توسيع دائرة التفكير النقدي ليشمل، فضلا عن المدوّنة الدينية، كلّ جوانب الإرث الحضاري للعرب؟ لقد أطلّ هؤلاء المفكّرون من أعلى العتمة على الثقب الأسود في الثقافة العربية القديمة وتسرّبوا، بالتمرين والمكابدة، إلى داخله ليفكّوا محاذيره فتكشّفوا فيه على مواطن معطوبة لم تعد قابلة للاستصلاح. لقد خُزِّنت فيه مقولات عديدة في القيم ومتون كثيرة في المعتقدات ونمط التفكير لا يمكننا تأهيلها من جديد بأيّة حال من الأحوال. وقد نادى هؤلاء المفكّرون تباعا بالقطع مع ذهنية النقل والاقتباس وتقديس السّلف الصّالح. كان ذلك ديدنهم. وقد كرّسوه دون مواربة أو مهادنة في بحوثهم وأمضوا سواد العمر في الانتصار له، كتابة وتدريسا.

نتشوف اليوم إلى نهاية مرحلة الاستكشاف الشامل للمتن التّراثي لا سيما بعد أن استكمل المختصّون المعاصرون تشريحه وتأويله طبقا لمناهج العلوم الحديثة كالانتروبولوجيا  والسوسيولوجيا واللسانيات. لقد كان ذلك التحقيق، العام منه والمختص، تجربة بحثية ضرورية ومشروعة استنفذت جهدا ضخما لا يقاس إلاّ بضخامة المدّونة التراثية نفسها.

في نظري، لم يعد بالإمكان اليوم التمادي في هذا المنحى. فمتى سننكفئ عن استحضار تلك المدوّنة كاملة وبكلّ تلك السّماكة من جديد كلّما جدّت أزمة حضارية بحجم وقوّة محنتنا الرّاهنة؟ إن استحثاث المجتمع المدني والسّياسي على تجاوز القيم السلبيية الموروثة لا يكفل، لوحده، شروط الانعتاق المنشود.  على الباحث المستنير أن يسعى، هو أيضا، إلى تخفيف ذاكرتنا الجمعية وأن ينآى بمبحثه عن الخوض من جديد في الجوانب التّراثية التي اثبتت البحوث السّابقة نهاية صلوحيتها. فكيف له يا تُرَى أن يحفّز النّاس على طيّ تلك الصفحات السّوداء وعلى نسيان قيمها فيما يواصل هو تصفّحها صباحا مساء ويوم الأحد؟ وقد يستنزف في نقدها كل طاقته البحثية دون طائل كمن يحرث في البحر. إذا سلّمنا منطقيا أنّ نقدنا للخطاب الإسلاموي يمرّ حتما بمراجعة مقولات ابن عرفة وابن تيمية وابن عبد الوهّاب مثلا، فعلينا أن نسلّم أيضا، استنادا إلى التجربة، أنّ النبش المتكرّر في تلك المرجعيات ينفض عنها غبار السنين ويسهم، من حيث لا يشعر الدّارس، في إعادة تأهيلها في ذاكرة القرّاء والمشاهدين والمستمعين. وكم من بحّاثة متنوّر فقد جذوة الفكر الحر بطول معاشرته لكتب السلف الأكثر انغلاقا فانطبع شيئا فشيئا بذهنية أصحابها وأخذت فيه مأخذا كبيرا. إنّها لغاية الغرابة معرفيا أن نستمر ّفي مقاربة ثقافتنا القديمة بمنهج يعتريه هذا القدرُ الهائل من التكرار والمعاودة.

3- عبد الله العروي وبوادر النقلة المعرفية:

ضمن المحاولات القليلة التي تسعى جدّيا إلى التخفيف من عبء الذّاكرة التراثية، بقي في البال كتاب بعنوان الإصلاح والسّنّة لعبد الله العروي. لقد نُشِرَ منذ ما يقارب العقدين دون أن يلقى الحظوة الفكرية التي تليق به. للمطّلعين على فكر العروي لا يأتي مضمون هذا الكتاب بإضافة تذكر. فهو لا يعدو أن يكون خلاصة   لمقولاته السابقة في الشأن الديني وتوكيدا على أنّ السنّة الإسلامية، جماعة ومؤسّسة وقيما، كانت ظاهرة تاريخية ونتاجا لفعل تقنيني بشري كغيرها من ظواهر الضبط والتقييد في الدّيانات الأخرى. فلم تكن فوق التاريخ، كما سوّقت لنفسها طويلا، وإنّما التحفت بقدسية القرآن لتؤمّن لمنظومتها التي تقوم على " ذهنية التقليد والاتّباع" رواجا واستمرارية عبر العصور.

بيد أنّ هذه المقاربة ترد بالكتاب في غير السياقات المعهودة. إذ لا يكتفي العروي في الإصلاح والسّنّة بالدّعوة إلى الخروج بإشكالية " الإسلام والتحديث" من دائرة القراءات المتداولة وإنّما يسعى خاصّة إلى تكريس هذا الخروج عنها ليباشره فعليا في مستويات ثلاث تؤشر على تحوّل معرفي أو إبيستيمولوجي في تناوله للقضية برمّتها.

على مستوى الخطاب، جاء الكتاب في شكل رسالة يردّ فيها العروي على أسئلة عالمة أمريكية مسلمة كانت قد كاتبته حول القرآن ومقوّمات ديانتها التي اعتنقتها حديثا عن رَوِيّة وبَعْدَ تمعّن. لا ندري إن كانت هذه المُراسِلةُ شخصيّةً حقيقيةً أم هي من نسج خيال المؤلّف. ولكن، وفي كل الأحوال، يكتسي دورها كمُخاطَبَة أهمّية رمزية بالغة في الكتاب. يسوق العروي سيرتها الذّاتية مشدّدا على أنّها امرأة متشبّعة بثقافة عصرها ومتضلّعة في العلوم الحديثة. كما أنّها تحترم قوانين العيش المشترك وقيم المواطنة وتعيش في بيئة اجتماعية متعدّدة الدّيانات والأعراق. إنّ كلّ هذه الخصائص تحيل، في واقع الأمر، على مقوّمات مجتمع مدني واضح المعالم ومكتمل الشروط يصعب استحداثه في أغلب المجتمعات العربية الرّاهنة. إنّ ما يُعْوِزُنا تملكه هذه الأمريكية المسلمة: تلك هي الظروف التي تسمح لها ببناء علاقة روحية سليمة بدينها. وتلك هي أيضا الشروط الدّنيا التي نفتقدها والتي يستحيل استصلاح موروثنا الإسلامي من دونها. وكأنّ العروي، بترسّله مع هذه المرأة الغربية، يتعمّد تجاهل العرب ويبقيهم، وهم على ما هم عليه الآن، خارج دائرة هذه المخاطَبة المباشرة لانتفاء الصّفة عليهم أو لعدم أهليتهم للتواصل معه في قضية الحال: "السّنّة والإصلاح". إنّ إقصاءهم على مستوى الخطاب لا يعدو أن يكون إقصاءا رمزيا لأنّ مضمون الكتاب موجّه بالأساس إليهم وإنّما باستبعادهم من المحاورة يحسم العروي أمره من البدء مع المقاربات التي أوهمت العرب طويلا بتحديث على المقاس وبأقلّ التكاليف. كما يضمر كتابه أنّ مجرّد التواصل معهم حول مثل هذه القضايا، في غياب تلك الأرضية المدنية الدّنيا ببلدانهم، يُعدّ مضيعة للوقت وللجهد.  لا شكّ أن هذه الصّرامة إزاء شروط التحديث تعيد إلى أذهاننا ما كان طرحه عبد الله العروي سابقا حول ضرورة القطيعة المنهجية  مع التراث. ولكن إذا تأملنا مليا خطابه في السّنّة والإصلاح نتبيّن فيه تحوّلا فكريا مهمّا إزاء الإرث الإسلامي والإرث الحداثي على حدّ السّواء.

يشرح العروي لمُرَاسِلَتِه كيف لعبت "الجماعة الإسلامية" عبر العصور دور الرّقيب الذي يقوم" بعملية زبر وتشذيب وترتيب". ف"كل ما علا وظهر، أو فاق وفاض، كل ما تجاوز وتعدّى، كل ما لا يقف عند حدّ معلوم وجب التخلّص منه". لقد نذرت "السّنة" كل جهدها ولا تزال لحراسة "التاويل المتوارث لكلام الله " حراسة لصيقة معوّلة في تصدّيها لكلّ" ابتداع" على "أنصار التقليد ودعاة الاتّباع". في الحقيقة لا ينزع العروي في كتابه إلى معاودة نقده للسنة الذي بات اليوم خطابا مشاعا بين المفكّرين الحداثيين بقدرما يقرّ بوجوب فكّ الارتباط، من داخل المدوّنة الدّينية، بين الشريعة والعقيدة. إنّه يسعى، بالأحرى، إلى تخليص البعد الإيماني الكامن في القرآن وفي السيرة النبوية من المَأسَسَةِ الفقهية التي طالته لاحقا وقَوْلبته. يغلب على خطاب العروي   الشّعور بالملل والحزن كلّما استذكر السّجال الدّيني القديم بين الفرق الكلامية في الإسلام متذمّرا من طول مغالبة "السّنّة" لمجرى التاريخ.  فيسلّم باستحالة استصلاحها فيما يشعر بغبطة كبيرة كلّما حدّث مُراسِلَتَه في معاني القرآن مشيدا في الآن نفسه بالتجربة الوجدانية للنّبي العربي.  في الفصول الأخيرة من كتابه يحثّها حثّا على قراءة القرآن ترتيلا وتفسيرا، دون وساطة "الشّراح" والفقهاء و"المؤوّلين" موصيا إياها بان تعتصم بمعاني آياته كعروة وُثقَى لإيمانها المتبصّر.

في سعيه الحثيث للفصل بين العقيدة والشّريعة يكرّس العروي مبدأ الفرز في الموروث الدّيني مديرا ظهره للمدوّنة الفقهية و يتموضع في زمن ما " بعد السنّة" أو زمن ال"بوست-سنّة"، كما يصفه في خاتمة كتابه. لقد سَخِرَ بعض النّقّاد من نبرة خطابه المفعمة بالإيمان واعتبروها ضربا من النّفاق الفكري. غير أنّ موقف العروي ، سواء  أكان تعبيرا منه عن توبة نصوح أو أسلوبا لتليين نقده للمسألة الدّينية، فإنّه يؤكّد عزمه على تعميم ما يمكن أن أسمّيه بمنهج "الفرز والتخلّي" ليشمل أيضا الموروث الحداثي ذاته. بصرف النظر عن صدق نواياه الإيمانية من عدمه، فإنّ احتفاءه بالمصحف الشّريف يذيب ذلك الجليد التاريخي الذي وسم علاقة الحداثيين بالدّين منذ عصر الأنوار. بل إنّ العروي يجعل من تجربته العقدية الذّاتية محفّزا لتعامله الفكري والفلسفي مع الموروث الحضاري بشكل عام.

في تونس، حيث يتعزّز مجتمع المُواطَنَة منذ تسعينات القرن الماضي، يتحرّر الخطاب التحديثي تدريجيا من السّجال حول مفاهيمه ومنطلقاته النظرية. إن محمد الطالبي، ورغم اتّهامه المُقَنَّعِ لبعض نظرائه العلمانيين بالرّدّة، فإنّه قد ذهب بعيدا في تخفيف الذّاكرة التراثية معتمدا في تأويله المقاصدي والمتنوّر للإسلام على "القول القرآني" دون غيره من الأقوال.

لكن يبدو لي، في هذا المجال، أنّ المسيرة الفكرية لألفة يوسف تترجم، أكثر من غيرها، جدلية التأثّر والتأثير بين الكتابات التحديثية في تونس من ناحية وبين حركية مجتمعها المدني من ناحية أخرى. إذ ما فتئ خطاب ألفة يوسف في شوق وفي سلسلة الله أعلم وخاصّة في حيرة مسلمة يلاقى رواجا كبيرا في الأوساط الشبابية المتعلّمة منذ 2008حيث نال استحسانا واسعا بمقدارما أثار حفيظة خصوم كثيرين.  تنزّل ألفة يوسف محاولاتها الفكرية في الصّراع المدني الدّائر حاليا وتستولد من درايتها الدقيقة بالمدوّنة الدينية فعلا تحديثيا وبراقماتيا لم يكن دارجا. إذا كانت «الحداثة" لغويا هي سليلة ل «لحدث" فهي أيضا، كمنظومة قيمية وحضارية، لا تتحقّق إلاّ ب"إحداث" الجديد و"تحديث" القديم. ما كان لألفة يوسف أن تشدّ الناس إلى كتبها لو لم تُخرِجْ المسألة الدّينية من دائرة البحوث الأكاديمية لتجعل منها حدثا مهمّا في حياتها الآن وهنا وتفعّل إيمانَها كرافعة قيمية لتجربتها الذّاتية. ما كان لها كل ذلك لو لم تطرح تساؤلاتها الفردية والنابعة من عمق وجدانها حول الزّواج والجنس والمساواة في الإرث بلغة الأنا. فلقد ابتدعت لنفسها تعبيرا مخصوصا يفتح على إمكانات التأويل الفرداني. إنّها تلعب في تونس دورا مدنيا مركّبا ومستحدثا لا يشبه بالمرّة الأدوار التقليدية الثلاثة التي ساقها عبد الله العروي في كتاب السّنّة والإصلاح. فألفة يوسف أبعد ما تكون عن الفقيه وعن المؤرخ وعن الفيلسوف وإن أخذت في كتبها من كل هذه الأدوار بنصيب. كما يفصل   بينها وبين عبد الله العروي جيل أو جيلان من المفكّرين وإن اشتركا في البحث عن أقوم المسالك لتمدين الموروث الإسلامي.

 

شعبان الحرباوي