Edgar Morin, Leçons d’un siècle de vie, Denoël, 146 pages, 17E, 2021, ISBN :9782207 163078.

 

 

قد لا تنطبق قولة أبِقْرَاط  "الفن طويل والحياة قصيرة" على مسيرة  المفكّر إدقار موران العجيبة.  لأنّ الرّجل عمّر فاستوفى عشرة عقود بأكملها  وخاض أثناءها تجربة شديدة التعقيد  تخللتها مُنجزات فكرية كبرى ووسمتها  على المستوى  الذّاتي متاعب جمّة. أصدر موران بداية هذه السّنة حصيلة القرن تحت عنوانLeçons d’un siècle de vie ( دروس قرن من الحياة)."

 

رغم أنّي لا استسيغ كثيرا خطاب المواعظ، استهواني أسلوب هذا الكتيّب وشدّني إليه خاصّة تواضع صاحبه. لا أعلم إن كان موران متواضعا بطبعه. كما أنّي لا أقصد بذلك إستراتيجيته التواصلية التي تساوي بين القارئ والكاتب رغم الفوارق المعرفية بينهما. وإنّما ما أعنيه ب"التواضع" يتمثّل خصوصا في قدرة موران الحقيقية على التجرّد من الشّهرة التي نالها باستحقاق كامل. فليس من اليسير على المفكّر ذائع الصيت أن ينزع عن نفسه هالة الوجاهة ويخرج بخطابه من دائرة النخبة المختصّة إلى عموم الناس. في فصول قصيرة لا يتعدّى حجم بعضها فقرات معدودة، عرض  مواقفه من أمهات القضايا الرّاهنة كالعولمة والتلوث البيئي والأوبئة  وذكّر بأهمّ المحطّات التاريخية التي أثّرت في حياته الشخصية وفي مشروعه الفكري على حدّ السواء مثل تبنّيه للفكر الشيوعي لفترة قصيرة ومساهمته في المقاومة ضد النازية في الأربعينات ومناصرته، منذ الستّينات، لقضايا التحرّر الوطني لا سيما في الجزائر وفلسطين. يشعرك هذا الكتيب الذي لا يتجاوز المائة والأربعين صفحة  أنّ إدقار موران قد فرغ فعلا  من ورشته بالكامل  وترك فيها معاوله المنهجية  جانبا ليصوغ عصارة تجربته  متحرّرا من كلّ أشكال التعقيد اللغوي والفكري. بل يبدو لي، وهو  يستذكر ماضيه،  في حالة من الغبطة المفعمة بالارتياح. كل ما ورد في هذا الكتيّب، أفكارا وصياغة، يوحي إليك بأن تواضعه إنّما هو موقف مكتسب  وسليل مسار ذاتي وبحثي مرير. فلقد جابه بمفرده أحداث جماعية كبرى: " لم أتلقّ من والدي أدنى ثقافة أو قناعة سواء كانت دينية أو سياسية وأخلاقية. كنت إذا أبحث بمفردي عن أجوبة لأسئلتي حول الحياة والعالم والمجتمع والأحداث و أقوم بذلك أثناء الأزمات و الصّواعق والقلاقل والفوضى وأوهام سنوات 1930-.1940التي كانت سنوات مراهقتي. لقد جرّني فضولي إلى التساؤل عن كل شيء لأركّز اهتمامي شيئا فشيئا على السياسة والمجتمع. كانت الأحداث المفاجئة والمفجعة والمرّوعة لتلك الحقبة محفّزا أساسيا لتساؤلاتي".

كما أنّ مغامرته البحثية المتعدّدة الأغراض والأبعاد قد رسّخت فيه وعيا حادّا بمدى قصور نظرية المعرفة أمام تعقيدات الواقع الإنساني. يرفض إدقار موران، فيما يرفض، منهج العقلانية الحديثة الذي يعتمد على  الفصل بين الظواهر وتجزئة كلّ ظاهرة على حده وكأن تفكيكها إلى أجزائها يؤدّي آليا إلى الإلمام بوحدتها العضوية الجامعة.  كان يسعى، منذ بداياته في أربعينات القرن الماضي،  إلى مدّ جسور التواصل بين العلوم الإنسانية لاستجلاء خصائص الفكر ورصد نقائصه داعيا في الآن نفسه إلى مراجعة نظرية المعرفة عبر المنجز المشترك بين الفلسفة والعلوم. كان إدقار موران يجدّف ضد التيّار وينشد  أمرا مستحيلا في زمن بلغ فيه التخصّص ذروته. لقد سخر منه طويلا أهل الاختصاص المتحصّنين بقلاعهم الأكاديمية وبدا في مسعاه أشبه بدون كيشوت في حربه مع طواحين الرّيح.

أثمرت مثابرته  حصادا وفيرا لا سيما كتابهLa Méthode (المنهج) بأجزائه السّت  فأحدث تحوّلا معرفيا في دراسة  الفعل الإنساني كظاهرة مركّبة يمتزج فيها البيولوجي بالاجتماعي والثقافي. في هذا السياق،  يعتبر إدقار موران أن تفسير الأحداث الجماعية  والمسارات الفردية بمنطق السببية والعقلانية الشكلية يسطّح الظواهر ويحول دون الإلمام بالنسيج الجامع بين عناصرها. بل إنّه يحذّر من التسليم بثبوتية الأشياء والقيم معتبرا أنّ المقولات اليقينية في الحياة والموت والحب وغيرها لا تعدو أن تكون ضربا من الوهم. لذلك يولي موران  في كتابه أهمّية كبرى  لهامش الخطأ  والصدفة والحض والمفاجأة(السّارّة وغير السّارّة) وينوّه بالدّور الذي لعبته أخطاؤه الشخصية في مسيرته الفردية. إنّه يدعو إلى تجاوز ثنائيات الخطأ والصّواب، الشكّ واليقين، الصدفة والميعاد، حسن الحض وسوء الطالع، السعادة والشقاء. لأنّها ، وإن بدت قائمة على تناقض منطقي ،  فإنّها  ليست ، في واقعنا المعقّد، على تلك  الدّرجة من القطيعة في ما بينها وإنّما تتناسل من بعضها  البعض وتخضع إلى دينامكية باطنية لا يمكن التنبّؤ بنتائجها. نحن نستولد اليقين من الشّك ونحوّل الصدفة إلى حدث تاريخي  وكثيرا ما تكون مصائبنا في الحياة محفّزا أومولّدا أساسيا لزمننا السعيد. كما أنّ العكس  صحيح أيضا لأنّنا ، كأمم وأفراد، لسنا في مأمن من الاندحار بعد الازدهار ولا نحن  بمنأى عن لحظة الهدم بعد طول البناء.

لم تزده الفوضى التي يسبّبها  اليوم وباء الكوفيد إلاّ قناعة بسلامة منهجه التكاملي. يكتب موران في هذا المجال قائلا:" إنّ الأزمة الكونية والمتعدّدة الأبعاد التي نجمت عن وباء الكوفيد تدلّ بشكل بديهي على الحاجة إلى تفكير مركّب وإلى فعل واع بتعقيدات المغامرة الإنسانية(...). لكنّ  أغلب السّياسيين والاقتصاديين والتكنوكراط  ورجال الأعمال لم يستوعبوا بعد هذه الضرورة ولم يقبلوا بها ولا يزال أغلب المواطنين  يجهلون هذه القضية أصلا. "

يعيد  موران  قراءة سيرته الذّاتية طبقا لهذه الرؤية المركّبة فيستهلّ كتابه  بالتساؤل حول هويته الشخصية: "من أنا؟ أجيب: إنّي كائن بشري. ذلك هو اسمي لكن لي نعوتا عديدة تتفاوت أهميّتها حسب الظروف. إنّي فرنسي من أصل يهودي أندلسي وإنّي إلى حدّ ما إيطالي و إسباني. لكننّي متوسّطي بالكامل وأوروبّي الثقافة و مواطن كوني أدين بحبّي لوطني:  كوكب الأرض. هل يمكن أن يكون المرء كل هذا في نفس الوقت؟ بَلَى. لأنّ ذلك مرتبط بالظروف والأوقات فمرّة تَغلُب هذه الهوية وطورا تسود أخرى".

في استذكاره لأهمّ مراحل حياته، يركّز إدقار موران  على جوانبها غير المعلومة وهوامشها غير المنتظرة وتلك التي شذّت عن المألوف وانزاحت عن السياق العام ليكْسِرَ مبدأي الحتمية والسببية: كانت أهمّ محطّاتها تتراوح بين الفرح والحزن منذ أن كان كائنا جنينيا في أرحام أمّه إلى أن بلغ من الكِبَرِ عِتِيّا:  لقد رُزِقَ إدقار الحياةَ، لكنّه فقد والدته وهو لم يتجاوز العشر سنوات. فكانت لهذا المصاب الجلل ، فيما بعد،  تداعيات إيجابية جدّا على مصيره إذ يقول،" وجرّاء مأساتي الأولى، التي أضحت مأساة بكل معنى الكلمة، حصلت  أهمُّ  فترات سعادتي". لكن، ورغم تعريجه هنا وهناك على متاعبه، فإن إدقار موران بدا لي في كلّ سطر من  سيرته  مفكّرا سعيدا  يحتفي بمنجزه العام وبكتابه الأخير وبعمره الطويل.

نحن  وإدقار موران

بيد أن ما يضفي على الدروس الواردة في هذا الكتاب طرافة وتميّزا  يكمن في أنّ إدقار موران  لا يشيد بمنجزه الفلسفي بقدرما يميط اللثام عن الواجهة الأخرى من حياته كمواطن حيث انخرط منذ شبابه في الدفاع عن الشأن العام  ضدّ الرأسمالية المتوحّشة  وعن قضايا التحرّر الوطني في الستّينات كما أنّه لا يزال يناضل ضد التلوّث البيئي والفكري في زمن العولمة. في كتابه Leçons d’un siècle de vie لا يسدي موران  النصائح ولا ينشر المواعظ وإنّما يحذو حذو مُلْهِمِه ميشال مونتاني ليعرض  على كل القرّاء في العالم تجربته  كوصية فكرية قد تساعد على معالجة واقع  البشرية واستقراء مستقبلها.

فكيف لنا، كتونسيين، أن نستفيد  فعليا من مُنجَز إدقار موران الفكري في هذا الكتاب؟

مع  المعذرة سلفا، لابدّ أن نقر أنّ الساحة الفكرية في بلادنا لا تزال تفتقر إلى المفكّرين المتفلسفين أمثال نوام شومسكي  وإيمانيال تود وعابد الجابري وإدقار موران ومهدي المنجرة وعبد الله العروي، إلخ... وقد تعاملت النخبة مع "الفلسفة" منذ الاستقلال تعاملا مدرسيا وأكاديميا لم يرفّع من شأن التفكير الفلسفي ليكون قادحا للفكر الحي. كم نحن اليوم في حاجة إلى مفكّرين قادرين على أن يتحرّروا من تضخّم الأنا و أن يخترقوا حدود اختصاصاتهم الأكاديمية ليسائلوا الواقع التونسي بتواضع وعمق حقيقيين ! كم نحن في حاجة إلى تفعيل "المنهج المركّب" الذي نادى به إدقار موران لترميم ذاتنا الوطنية بعد أن مرّ عليها الإعصار الهويّاتي في 2011 !

لا ننسى  أنّ المجتمع المدني  التونسي قد وضع كل آماله بعد الثورة  في مجال التشريع ظنّا منه أن دسترة الحقوق الفردية والجماعية  ستكون كفيلة لوحدها بالتّأسيس لمنظومة فكرية وسياسية جديدة. ولكن سرعان ما تفطّن الجميع إلى أنّ الخطاب الحقوقي الذي هيمن على السّاحة السياسية أدّى إلى نتائج عكسية تماما  حيث  فاقم ، باسم "الدّيمقراطية"، المطلبيةَ المشطّة لدى فئات كثيرة.  فتحصّنت النقابات بالحق النقابي دفاعا عن منظوريها  وتمترس "أبناء الجهة" وراء  حقّ "جهتهم" في التنمية المحلّية وانتعشت هنا وهناك  في ظل الفوضى العارمة سلوكيات قبلية قديمة وأخرى  تقوم على المحسوبية العائلية. ممّا  عمّق في المجتمع التونسي  حالة من التشظي غير مسبوقة باتت تهدّد كيان الدولة الجامع. على المستوى الثقافي،  نحن في حاجة أكيدة إلى مراجعات شاملة تلعب فيها الفلسفة والإنسانيات الأخرى دور الرّافعة والقاطرة لنعيد تركيب المفكّك في ذواتنا ومعالجة الشروخ التي أحدثتها الهويّات الانعزالية (الدين، المهنة، الجهة) في القواسم المشتركة بين عموم التونسيين.

 

شعبان الحرباوي