الحبيب السالمي، نساء البساتين، دار الآداب، بيروت،الطبعة الأولى، 2010 ، 207 صفحة، الثمن:15.000 د.ت،

ISBN :978-9953-89-161-3.


ٳنّ كتابات الحبيب  السالمي تعجّ بالشخوص النسائية بدءا بباكورة أعماله الروائية، جبل العنز، إلى آخر حكاياته في  نساء البساتين الصادرة في 208 صفحة عن دار الآداب ببيروت سنة 2010 .إلاّ أن هذا الحضور الأنثوي المكثّف لا يؤشّر بالضرورة على اهتمام مخصوص لديه بعوالم النساء  لو لم يبوّئهنّ السالمي دراميا مكانة محورية، لا سيما في عشّاق بية و روائح ماري كلير و نساء البساتين.إنّها  ثلاثية النساء بامتياز،العشّاق فيها كثر: جماعات و فرادى و صولة الأنثى عليهم كاسحة، سواء كانوا شخوصا عاديين أو رواة. لكن للحب، في سرد السالمي،  أبعاد و وطقوس مخصوصة تحضر بدرجات متفاوتة وعبر زوايا متداخلة  فتنأى بجلّ رواياته عن مألوف السرد في هذا الغرض.

 

 

العنوان،"نساء البساتين"،  لا يخلو من مراوغة لأنّه مختزل. إذ  نتبيّن، في متن الرواية، أنّ المقصود هو  ثلّة من النسوة يقطنّ  حيّا  بتونس العاصمة يسمّى بحي البساتين وينتمين، جلّهنّ، إلى فئات هي أقرب إلى الشرائح الشعبية منها إلى الوسطى.

الرّاوي، توفيق ، مهاجر تونسي ليس كعموم المهاجرين: ٳستقرّ بفرنسا ، تزوّج الفرنسية  كاترين وبات يحضى  بمكانة اقتصادية  مريحة واحترام الجميع بعد انتدابه كأستاذ تاريخ بالمعاهد الثانوية هناك. عاد بمفرده إلى تونس لقضاء عطلة قصيرة فنزل على عائلة أخيه إبراهيم ضيفا مبجلا رغم تواضع الحال وضيق المحلّ. في شقّة أخيه، كثيرا ما  يركن توفيق إلى غرفته ليسترق النظر إلى شرفة الجارة نعيمة بالطابق السفلي وهي شابة مطلقة ترتدي الحجاب تارة و تنزعه طورا وتعيش في قطيعة تامة مع سكان العمارة بل  مع حي البساتين كلّه. وقد زاد الغموض الذي يلفّ حياتها من انجذاب الراوي إليها والرغبة فيها. "ينزل" توفيق الى وسط العاصمة يوميا ليتجول في شوارعها ويجلس في مقاهيها ويزور ضواحيها. فتتعدّد  في مرمى نظره و جوه النّساء وتكاد ملاقاتهنّ، صدفة أو بعد ترصّد،أن تكون الرّابط الوحيد بين فصول الرّواية، لأنّ الراوي شغوف بهنّ شغفا كبيرا و مشدود إلى التونسيات شدّا. يفوق في انجذابه ٳليهنّ باقي التونسيين ولعلّه أخذ بقول تلك العجوز التي نصحته، وهو المتزوّج بفرنسية، بأن يعاشر التونسيات لأنّ ل"ذلك الشيء" عندهنّ، كما تدّعي العجوزالماكرة، مذاقا متفرّدا.

تتكرّر المشاهد في فصول الرّواية لتتشابه دون أن تفضي إلى لقاء حاسم أو إلى مواعدة مهمّة.وكأنّي بالسالمي يسعى إلى إبقائها في مستوى اللقاءات الخاطفة.فعلاقة الراوي بنعيمة، الجارة التي انشغل بها طيلة عطلته التونسية. تبدو في بداية السرد صلةإعجاب متبادلةو واعدة أوهي بالأحرى مفتوحة على إمكانات درامية هائلة. لكنّها تنتكس تدريجيا و لا تعدو في النهاية أن تكون، في تجربة الرّاوي، لقاء عرضيا مثل غيرها من الفرص الضائعة. فلم يقدم على مكاشفتها بإعجابه بها أو حتّى  على  مغازلتها. كذلك الحال بالنسبة للقائه بليلى، الذي وان تميّز بالسرعة والمباشرة،  فهو لا يتجاوز حدود المغامرة الجنسية العابرة:  التقيا، فتواعدا، فتضاجعا.  تجربة يتيمة تفتقر،  كمثيلاتها،  إلى الأفق وتعوزها لدى الطرفين رغبة الاستمرار، فكل اللقاءات ّ تولد باهتة لأنّها بدون  مستقبل درامي في الرّواية. بل إن السالمي يركّز على المفقود فيها. فتبدو صلة الرّاوي بالنساء منقوصة بل هي مبتورة من شيء ما، شيء أساسي بدونه لا ترتقي إلى مستوى العلاقة. لا تنقصها العاطفة و لا الرغبة الجنسية الجامحة، لكنّها تشكو من افتقاد للتواصل الانساني الحميم  ومن حالة نحباس شاملة أفرزها المناخ الاجتماعي وزادت في تفاقمها موجة من  التبلّد  الذهني العام ألمّت بالبلاد منذ التسعينات. في حي البساتين و في بداية القرن الجديد، يرتّب المواطن التونسي زمنه على وقع المآذن ، طقوس الصلوات الخمس،  و يعيش تحت رقابة بوليسية مستديمة. تتواتر الإشارة في كل جنبات الكتاب إلى المسجد  الذي أضحى فضاء محوريّا في حي البساتين، وفي غيره من الأحياء،  حيث تفشّت  ظاهرة التديّن المتزمّت بين النساء و الرجال،بين الصغار والكبار. فنعيمة المطلّقة فشلت في حماية حياتها الشخصية و اقتيدت للسجن بدعوى معاشرتها للرّجال كما  انكشف ورع ابراهيم الزّائف بعدما تبيّن الرّاوي أنّ أخاه تقيّ بالحي وملاحق بارع للمومسات في وسط المدينة. تحت عيون الرقيبين، الإمام الواعظ و الشرطي المخبر، بات الانطواء على النفس سيّد المشهد وأصبح النفاق الاجتماعي والورع الكاذب عملة للتواصل بين الجنسين. تتوارى  منذ الصفحات الأولى في رواية السالمي صورة تونس، عاصمة و بلدا،  كحاضنة للغرام ولأشياء جميلة أخرى. فحي البساتين فيها لا يزهر حباّ  و نساء السالمي في هذه الرواية   شتات أنثوي عابر: محجّبات وسافرات ومومسات.انّهن مفرد بصغة الجمع.  الكل، نساء و رجالا،  يعيش عزلة في ذاته و يمرّ بالشوارع في عجل من أمره. وقد عمّق اكتظاظ المقاهي وأحاديثها التافهة، لدى الرّاوي المهاجر، إحساسه بالوحشة في مسقط رأسه.

انّ السالمي لا يطلق أحكاما على شخوصه لأنّه شديد الحرص عل عدم الزّج بروايته في أتون الخطاب النسوي أو الاجتماعي المباشر.  لكنّ اعتماده في حي البساتين هذا البناء الأفقي للأحداث المتّسم بالتواتر و بأحادية الرؤيا( نظرة الراوي) قد ينمّ عن اختيار فنّي يترجم به استبطان العزلة لدى التونسيين و يصوّر حالة من التفكّك المدني انتابت مجتمعهم منذ العشرية الفارطة و ينبئ بتراجعات في مكتسبات حداثتهم الهشّة.

لا أظنّ أنّ الحبيب السالمي، الكاتب المتمرّس، في حاجة، اليوم، لثناء ٳضافي على مسيرته الروائية  المتميّزة تونسيا و عربيا بقدر ما هو متشوّف الى رأي قرّائه في عشّاق بيّة،روائح ماري كلير و نساء البساتين، بصرف النظر عن وجاهة تقييمهم من عدمها. فلا يخفى على من واكب تجربة السالمي الطويلة أنّه روائيّ عشق فنّ القصّ و جعل منه مشغله الأدبي الوحيد. و قد عُرِف أيضا بصرامته إزاء  مادّته الرّوائية. فهو دائم السّعي لاستنباط طرائق  في الحكي تنأى بكتابته عن المألوف في مجال يعسر فيه التجديد. لقد طوّع، مثلا، في روايته الكبيرة عشاق بيّة فضاء مسرحيّا صرفا ( الزيتونة و روّادها)و صيّره مجالا رحبا  يتّسع لزخم روائيّ هائل كما وظّف روائح ماري كلير توظيفا متعدّد الأبعاد للتعبير عن رغبة جموح، لدى المرأة و الرّجل، في التواصل تتجاوز طفرة الانجذاب الجنسي لتفتح على عوالم  حسّية و معرفية وحضارية.

لكن يبدو لي أنّ تحفّز السالمي إزاء الأشكال السائدة بلغ أشدّه في نساء البساتين واشتدّت صولته على النص و على الحبكة الروائية فيه، فغلب السّرد المسترسل للأحداث على عملية التشبيك والتعقيد التي كثيرا ما تميّز الحبيب السالمي باستثمارها في سابق أعماله. فمتى سيخفّف السالمي من رقابته الفنّية على حكاياته الممتعة؟