حسونة المصباحي،  "يتيم الدهر"، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، الطبعة الأولى بيروت،2012 ، 304 صفحة.

ISBN : 978-614-418123-2

 

ما قرأت عملا إبداعيا أو مقالا فكريا لحسّونة المصباحي إلاّ وأحالني، تلميحا أو تصريحا، على الأدباء قدمائهم و محدثيهم. لقد احتفى بهم في" يوميات مونيخ"(2008) احتفاء كبيرا معتزا بانتمائه إلى حظيرتهم وسعى دوما إلى تضمين شذرات من سِيَرهم في رواياته كلّما سمحت السياقات  السردية بذلك، لأنّه يرى في ذاته امتدادا لذواتهم، أو بالأحرى لا يستطيع المصباحي تمثّل عمله كأديب خارج دائرة الذين أحبّ منهم. فهم رفاق دربه الأدبي. هم عشيرته الرّوحيّة وتكاد آثارهم أن تكون ملاذه الوحيد كلّما استعصت عليه الكتابة أواشتدّت به مِحَنٌ الحياة.

 

في روايته الأخيرة، " يتيم الدّهر"، الصّادرة سنة 2012 ببيروت عن دار جداول للنشر و التوزيع، تشكّل ثنائية  الكتابة  و القراءة عند الأديب »يونس « محور الحكاية كلّها. و كـأنّي بتجربة هذه الشخصية المركزيّة إنما تأتي تتويجا لمسارات شخوص أخرى في بعض روايات المصباحي السّابقة.إذ يتوفّر يونس على ملامح شخصيّة وخصائص فكريّة اتّصف بها رواة سابقون تحت أسماء مختلفة جعلوا، هم أيضا، من القراءة   ضرورة وجودية وامتهن البعض منهم الكتابة الأدبيّة. يشاطرهم يونس المولد والموطن وكثيرا من الأهواء. فما أشبه  تجربة الهجرة التي خاضها أصدقاء يونس في  أوروبا و خَبِروا خلالها مِحَن التّرحال واستمتعوا بملذّاته بتلك التي عاشها رواة و شخوص في "نوّارة الدفلى"و في" وداعا روزالي" و "رماد الحياة". بل ما أشبه طقوس القراءة والكتابة عند المصباحي، الكاتب الحقيقي في يومياته المونيخية، بطقوسها لدى نظيره في رواية » يتيم الدهر «. لكن الرواية الأخيرة ترسِّخ كلّ هذه التّقاطعات في مسار سردي، فردي،  متكامل وشامل.

لا أظنّ أن المصباحي يُنكِر على ذرّيته في النّص شيئا من صلة الرّحم الأدبية التي تشدّهم إليه، بل هم جميعا وفي ما بينهم كالتوائم وإن اختلفت رؤاهم وباعد بينهم الزّمن. هم صور( بمفهوم الصّورة الشّمسية) متعدّدة لشخصية محوريّة واحدة، أعني شخصيّة الكاتب  يونس الذي استبطنهم جميعا في مسيرة الستّين سنة الطّويلة. و لعلّ اكتفاء الرّاوي في الفصول الأولى من الرواية بالإشارة إليه بضمير الغائب" هو" والكشف المتأخّر عن إسمه يدلاّن على هويته الجامعة.

يونس أو" يتيم الدهر"، كما كان يحلو له أن يكنّيَ نفسه في بداية مشواره الأدبي، لم ينقطع عن الكتابة رغم شعوره العميق بالإحباط. فقطع على نفسه عهدا بعدم نشر ما يكتب، ربّما لخوفه من مجابهة جمهور القرّاء أو لرهبة مُزمِنة تعاوده كلّما انتهى من كتاب جديد. لكن صرامته تخفي ، في واقع الأمر، طموحا نما فيه و لم يبارحه أبدا بعد معاشرته الطويلة لآثار فلوبير و دجويس و بورخيس و محفوظ. فهو لا يرضى بغيرهم مثلا أعلى لا سيما في انحيازهم لشغلهم الأدبي انحيازا لا مشروطا. قد يكون استحضاره الدّائم لهذه الهامات واستبطانه لهاجس الجودة، كقيمة فنّية مطلقة، صعّب عليه الخروج بكتبه إلى الجمهور العريض. تلك هي أسباب نفسية وفكرية لا تكاد تخلو منها سيرة أديب. بيد أنّ هناك معوّقا ٳضافيا أعتى من كل المعوّقات التي سبق ذكرها ويكمن  في علاقة يونس المأساوية ببلده تونس وفي إشكالية  عزوف أهلها  عزوفا تاريخيا عن الكِتَاب وفي لامبالاتهم بالفكر و شؤونه. لقد جرّه شعوره بالغُبن إلى حجب أعماله التي  أخذت منه سواد العمر وملأت أركان بيته  كما وأد هذا الشعور في يونس  نصوصا أخرى لم تحظ و لو بشرف التّحبير بمسودّاته. فأبى إلاّ  أن يعيش كاتبا  مغمورا و أن يموت إنسانا نكرة. تجري هذه القطيعة القسريّة في نصّ الرّواية مجرى اللّعنة وتسري في خُلد يونس سريان العُقدة الآثمة منذ أن نبّهه في بداية السّبعينات ذلك الكاتب التّونسي الكبير قائلا:"اسمع أيّها الشاب....شيء رائع أن تكون مغرما بالأدب....لعلّك تحلم بأن تكون كاتبا أو شاعرا ذات يوم لكن عليك أن تعلم أنّ الكتابة في هذه البلاد لعنة ومحنة....لذا لا بدّ من الحذر حتّى لا تتلقّى الصّدمة الصّاعقة التي تلقّاها صديقي (ت-س)". تلقّى يونس،بدوره، أكثر من واحدة طيلة مسيرته وانتهى به الأمر في آخر أيّامه، بعيد الثورة "المجيدة"، مهشّم العظام على شاطئ نيابوليس بعدما اعتدى عليه بالعنف الشّديد جمع من الشّباب السّكارى ظنّوه من عائلة "الرّئيس المخلوع". لم يفلت "يتيم الدّهر" من قدره المحتوم. لكن وجب التوكيد على أنّ يونس أقدم على حجب إنتاجه رافضا أن يشحذ من بني وطنه اهتماما مصطنعا أو يستعطيهم اعترافا كاذبا.لأنّه يعي أنّ فاقد الشيء لا يعطيه وأنّ الخلاف بينه و بين عموم الناس أبعد من أن يكون مسألة شخصيّة أو قضية ظرفية.

إنّ نسيان الفكر والمُفكِّرين ليس مَعَرّة تونسية فحسب بل هو سلوك مغاربي أيضا، إن لم نقل عربي. تتواتر هنا وهناك في السرد، أسماء عديدة لأعلام تونسيين و مغاربيين قضوا نحبهم و غارت ذكراهم من الحاضر كما تغور المياه في رمال الصحراء الكبرى فلم نعد نعلم عنهم شيئا يذكر. بيد أن يونس استحضر في الكتاب محنة المعتمد بن عبّاد ورواها بتفاصيلها، لأنها تختزل علاقة المبدع بالسياسي وبرجل الدين(يوسف بن تاشفين) من ناحية، و تفضح صلة عموم النّاس بأهل الفكر، من ناحية ثانية. وتبيّن قصّة الشّاعر الأندلسي، في ما تبيّن،   كيف"تغلبّت البداوة على الحضارة، وانتصر المحارب الصحراوي المتزمّت وشبه الأمّي على الشّاعر الرّقيق العاشق للحياة  وملذّاتها". لقد كرّست هذه العلاقة الثلاثية  الغلبة للإمام الواعظ والسلطان الحاكم بأمره على حساب الأديب و فكره، منذ زمن محمّد بن تُومرت. في سبعينات القرن الماضي، زار يونس قبر بن عباد في قرية أغمات بالمغرب الأقصى فوقف في "ذلك البلد المهمل والمنسي منذ أمد بعيد"على  ضريح غريب، خَرِبٍ،آهل للزوال وبدون هوية.

في رواية" يتيم الدّهر" تزداد صورة المُبدِع سوداويّة لتتجاوز في قتامتها مقولة الدّوعاجي المشهورة " عاش يتمنّى في عنبة مات جابوا له عنقود": فلا عنقود و لا هم يحزنون! يلتمس الرّاوي أعذارا لأهل أغمات ليخفّف من سلبية موقفهم فيتحدّث بإطناب عن فقرهم و عن غياب صلة الرّحم و التاريخ بينهم، كبربر، و بين  الشاعر المنفي. لكنّ المشهد يبقى مُربِكا ومُخيفا اذ يصوّرهم الرّاوي هائمين وقد نخر النسيان ذاكرتهم وانطفأ في عيونهم وازع الفضول منذ زمن مديد.

تحوم في ثنايا نص المصباحي وجوه منسية، مغاربيّة أو تونسيّة، يوحي بأسمائها  الرّاوي إيحاء  كالبشير خريّف والطّاهر جاووت و غيرهما من المحدثين. هناك آخرون باتوا أشباحا قد لا يكفي التّلميح ليتعرّف القارئ على هويّاتهم. "تـ_س"، مثلا، هي الأحرف الأولى لاٍسم و لقب كاتب تونسي كان، والعٌهدَة على  الرّاوي، سيكون له شأن أدبي في الخمسينات لو لم تُتلَف  مخطوطاته أيّام المحنة اليوسفيّة. نُشِرت له  قصّة يتيمة يتغافل  المصباحي عن ذكر عنوانها، لعلّه يتعمّد بذلك التّورية لإحراج الكثير من قرّاء الأدب التونسي( و أنا منهم) وفضح جهلهم بجوانب من تاريخه المعاصر.

لايستحضريونس، هنا وهناك،ردهات من عمره الذي انقضى فحسب، بل تتداعى حول مسيرته أخبار وحكايات يفضي  بعضها إلى  بعض في سرد منفتح  تحفّ بها و تتداخل معها حيوات لشخوص عاصرهم ولآخرين عاشوا في أزمنة بعيدة. هو يتيم دهره لميزة أكيدة فيه: يونس جمّاع،لمّام لقصص القرية والوطن. لا تفلت منه لا شاردة و لا واردة، حمّال لايكلّ لخبايا الذّاكرة الشّعبية. هو منصت بارع لما يرويه له أقاربه  حول  كرامات الأولياء الصّالحين بقدر ما هو قارئ مثابر لكتب تاريخ البلاد (ابن خلدون، ابن أبي الضياف، بيرم الخامس، الخ.).فيونس مسكون بتونس و سردُه معبأ بها.لا تفصل يينهما،  لغة، إلاّ تاء التأنيث. فما أشدّ أواصر القرب و القربى بين  "يونس " و"تونس"، فهو منها وإليها! يُؤنِسها، فتخذله. و ما أعتى لامبالاتها المُزمِنة وكـأنها جُبلت على أن لا تستأنس بالفكر وأن لا تكرم أهله أصلا! يطفو السرد ليشمل فترات من تاريخ تونس القديم وبلاد المغرب الكبير. جلّ الشخوص في هذه الرّواية تمارس الحكي و تجيد فنّه بدءا بأمّ يونس وأبيه. لكن شبكة الرّواة لا تنفكّ تتسّع لتشمل أخواته وعمّاته و خالاته... و خاصّة  أخاه الذي يتفنّن في ذكر كرامات آخر أولياء الله الصالحين"سيدي غرس الله". لقد ظفر يونس بمخزون هائل من الحكايات. تلك ثروته الوحيدة بعدما انفرط عقد عائلته  وتلاشت أواصر الصداقة والفكر بينه و بين معاصريه  بالتقادم، بالتّنافر أو بالوفاة. فاستقرّ به الحال في نيابوليس حريفا ليليا  لمطعم الألباتروس  حيث يتبادل مع جلال أطراف الحديث حول الأدب متناولا  بعض الكؤوس من نبيذه المحبّذ " الماقون"ويراوح  نهاره بين القراءة والكتابة.

لو كان لي أن أكنّيَ يونس بكٌنية تونسية خالصة  على ضوء مسيرته في الرّواية، للقّبته ب"الثور الأبلق"تبرّكا بنُدرته وتقديرا لشغله. لقد وقع تحميل حكاية "الثور الأبلق" معاني عديدة في ربوع تونس العميقة وتنوّعت روايتها حسب المقاصد و الأهواء. لكن نواتها الأصلية بقيت ثابتة لتقوم على  مفارقة غريبة لا تختلف كثيرا عن محنة الأديب التونسي أو المغاربي : يُحكَى  أن ثورا أسود موسوما بغرّة بيضاء  كان محروما  لدى أناسه من العطف الذي كانت  تنعم به باقي  الحيوانات الأليفة.  بل  هناك من الناس من  كان يتطيّر منه  لغرابة لون جبهته أو لندرة البلق في دنيا لأبقار و الجواميس،  رغم أن الثور المذكور كان دوما  مخلصا في قيامه بأشغال شاقة ودقيقة لا يقدر عليها غيره من القطيع. فقد جنى عليه لونه المتفرّد وزاده مشقّة تفانيه في العمل ليعيش مطلوبا ومنبوذا في الآن نفسه،  فلا هو ظفِر بالحظوة التي يستحقّ و لا هو تُرِك لحاله كعموم المواشي.

مجازا، وبعيدا عن عالم الحيوان، الكاتب التونسي هو أيضا كائن أبلق لأن سبب محنته و عزلته يكمن في سمة تفرّده، في اشتغاله بالفكر  في مجتمع  لا تزال تسوده ذهنية القطيع،  وقد ازداد اليوم  ارتِياب هذا القطيع من الإبداع  في ظل تفشي الأصولية الدينية و تكاثر ذرِّية محمد بن تومرت في بلاد المغرب الكبير. تذكّرت حكاية الثور الأبلق بعدما انتهيت من قراءة الرّواية لأنّ  العبارة القديمة التي اختارها المؤلّف عنوانا لروايته " يتيم الدّهر"  قد لا تفي بكل   العلاقة المأزومة بين يونس و تونس، كما تفانى في تشريحها المصباحي تشريحا حيا و راهنا. بل تبدو لي عنوانا بلاغيا مُنَمَّطا. كأني بالمصباحي  قد استهواه شيطان البلاغة القديمة لِعَنْوَنَة روايتيه الأخيرتين "رماد الحياة" و "يتيم الدّهر".

كثيرا ما تتقاطع المسارات بين الكاتب الحقيقي و يونس. فالمصباحي بلغ هو أيضا العقد السادس من عمره و تساوره  تقريبا نفس المخاوف والأحاسيس. من كتاب إلى آخر، يشتد  إحساس هذا الرّوائي القدير بالشيخوخة الجسدية وتوجّسه من خذلانها لطموحه المتجدّد. بيد أن حسّونة المصباحي، خلافا لنظيره يونس،  يعي  جيّدا مدى أهمّية خريف العمر، بل وشتائه أيضا، في مسيرة الرّواد مثل   نجيب محفوظ، قارسيا ماركيز وميخائيل نعيمة. فليجعلْ من عقده السادس (عُمريا) عقدا فريدا و متجدّدا في مناهضته لغول التّفاهة و في فضحه للجحود المجتمعي إزاء العمل الفكري عموما، حتّى وإن  بدا هذا النّكران في الرّاهن التونسي و العربي آفة أزلية.

أتت نهاية يونس في الرّواية  صادمة  لأنّ واقع الكتّاب والمفكّرين لا يحتمل  التّخفيف أو التّفاؤل الزّائف ولا حتّى تشاؤل أميل حبيبي، رحمه الله. فمسألة الفكر و الإبداع عند العرب أكثر استعصاء من قضيّة فلسطين. لكنّ المصباحي لم ينفكّ يحتفي عبر تجربة يونس، و على مدى ثلاثمائة صفحة،  بالأدب، برموزه وبدور السرد الأدبي في استرجاع الذّاكرة التّونسية و المغاربية، شخوصا و طقوسا، و إن جَحَد الجاحدون.