زهرة مراد، صديقي المشاكس، مجموعة قصصية، دار زينب للنشر، 2019، السعر : تسعة دنانير

ISBN : 789938 390469

 

 

ينبني الأدب على كثير من الخيال. لكن بقدر ما يحاول صاحب النصّ التحرّر من الواقع، فإنّه يجد نفسه مُعادا إليه ومحاصرا به. فلا يتجرّد منه إلاّ ليعود إليه مجدّدا. عندما يصوغ الكاتب أفكاره أو قصصه، ينشئ عالما مُتَخَيَّلا بالضرورة، لكن حينما يتمعّن فيه يكتشف أنّه في علاقة جدلية مع الواقع، فهو غارق فيه ونابع منه. فإذا تمرّد المُبدع وفلت من عقاله سابحا وسارحا فإنّه سرعان ما يتبيّن، لاسيما عندما يعود إلى سكينته، أنّ صَوْلة العالم المحسوس عليه وعلى إبداعه صولة لا تُصدّ.

 

 

 

يبدو أنّ المجموعة القصصيّة، صديقي المشاكس، للأديبة التونسيّة زهرة مراد تقوم على منطق مغاير تماما. صحيح أنّ جميع نصوصها مرتبطة بالواقع إلى حدّ بعيد. إن لم نقل هي سرد للواقع بعينه. بيد أنّنا نشعر، بين الفينة والأخرى، أنّ المتخيّل يحتلّ فيها حيّزا كبيرا بل إنّه يشكّل قوّة هائلة كفيلة بأن تمزّق أحجبة الواقع وأن تنفذ إلى فضاءات أرحب ومعان تتجاوز المحسوس والملموس. في هذه النصوص من كمون المعاني ما يفرض على قارئها حضورا ذهنيا لاستنباطها وفكّ شفرات الإيحاء والتضمين التي اعتمدتها الكاتبة. كما يتطلّب منه جهدا لرصد ما ترمز إليه زهرة مراد في طوايا الحكي. إنّها نصوص تفترض حسّا استكشافيا للمعنى الكامن في مضامين الكلام. إذ لا يمكن تحميل معاني كافة قصص المجموعة، على ظاهر المنطوق فقط، بل يتحتّم على قارئها تقليب أديمها، لكشف خفاياها.

في هذه القراءة النقدية سنقتصر على نصّ واحد بعنوان "الرّئيسة" دون باقي النصوص. ليس تغاضيا منّا عنها، أو استنقاصا لجودتها. بل لأنّ الإحاطة بها جميعها يتطلّب تركيزا أكثر وإلماما بكافّة مكوّنات كتابتها، منهجا وأسلوبا. وهو مَبحثٌ يتجاوز غاية هذه القراءة المحدودة.

إذا سلّمنا أنّ كلّ قراءة نقديّة هي، بالأساس، مساندة للنّص، فإنّ الاهتمام به يمثّل، في حدّ ذاته، دعامة له بغضّ النّظر عن رأي النّاقد فيه.

على المستوى الخطاب، استعملت الكاتبة في بداية القصّة ضمائر الغائب والمخاطب ثم المتكلّم في تبادل علائقي متين بينها عبر بناء سردي مترابط. كما استخدمت المونولوغ، في تخاطب لبطلة القصّة مع الذّات، لتبرز ما تبطنه هذه الشخصيّة نحو سيارتها وإزاء وضع البلد من ناحية، وتُلِمّ، من ناحية ثانية، بالأحاسيس التي تستشعرها البطلة كلّ صباح وهي تتّجه نحو عملها. لقد وظّفت زهرة مراد في سردها أيضا تقنية الاسترجاع بواسطة ضمير الغائب الجمع لتحيل ذهن القارئ إلى حقب لها رمزيتها في تاريخ البلاد. بيد أنّ التركيز منذ الصفحة الرّابعة للقصّة وعلى مدى عشر صفحات، كان في جلّه على ضمير الغائب المؤنّث، أي على بطلة القصّة، حيث اعتمدت الكاتبة أسلوبَ الإسقاط ورسمت الفضاءات بعناية. فيبدو بذلك تحرّك البطلة تحرّكا موجّها نحو غاية مرسومة سلفا ومستندا إلى بناء سردي منطقي واستمراريّة في الأفعال والأفكار، ممّا يجعل الأحداث والصورة الكاريزميّة للبطلة تترسّخ في ذاكرة المتلقّي بوضوح كامل، فلا تتلاشى، فضلا عن أن هذه الأحداث المترابطة في نشأتها وتلاحقها وتطوّرها وخاتمتها تضفي على النصّ سلاسة لغوية و تزيده انسيابا سرديا. فبات حضور الشخصيّة المحوريّة في القصّة مقنعا ومتناسقا مع سماتها وطبيعتها.

لكن قصة "الرئيسة" تتميّز على غيرها من قصص المجموعة باختراقها  حدود المحرّم ونيلها من "التابو" العقدي والاجتماعي، ممّا يجعل منها محاولة جادّة لإثراء الحسّ النقدي لدى القارئ.

فعلا، لقد سعت الكاتبة مجتهدة إلى توجيهه نحو قضيّة هامّة تتعلّق بوضع المرأة ومعاناتها، كمكافحة في العمل:<<حين اِستَيْقظَتْ، َنظَرَتْ إِلَى الَّساَعةِ فَأَدرَكَتْ أَّنهَا تَأَّخرَتْ. أَسْرَعَتْ ُتعِّد نَفْسَهَا لِلخُرُوجِ. وَدُونَ َأنْ تُفْطِرَ، خَرجَتْ وَبِيَدِهَا كُلُّ لَوازِمِ عَمَلِهَا وَمِفتَاحُ الَّسيَّارَةِ. لَمْ ُتوقِظْ َأحَدا. عَلَيْهَا َأنْ تَزُورَ َبْعضَ الْمَداِرسِ الرِّيفِّيةِ. وَهِيَ َتَّتِجهُ َنحْوَ طَرِيقٍ فَرْعِّي ُيوصِلُهَا إِلَى ِإحْدَى الْمَداِرسِ. الطَّرِيقُ طَوِيٌل وَمُلتَوٍ، وَمُهتَرِئٌ، تَهْرَبُ مِنْ حُفْرَةٍ َفَتجِدُ َعجَلَاتِ الَّسيَّارَةِ فِي حُفْرَةٍ أَكْبَرَ، تَسِيرُ بِبُطْءٍ َتجَنُّبًا ِلتِلْكَ اْلحُفَرِ، لَكِنَّهَا لَا َتجِدُ مَفَّرا، الَّسَيَّارَةُ تَهتَزَّ ِحينًا َوتَنْزِلُ َأحْيَانًا، وَهَذِهِ اْلحَوَاجِزُ اَّلتِي يُثَّبتُونَهَا عَلَى الطَّريقِ الْمُعَبّدِ، لِإجْبَارِنَا عَلَى َتخْفِيضِ الُّسرْعةِ، لَا تَزِيدُ الْأَعْصَابَ إِّلا تَوَتُّرًا، وَهِيَ َتتَوَقَّفُ أَكْثَرَ مِنْ مَرّةٍ بِسَبَبِهَا، َوُتحَاوِلُ جَاهِدَةً َأنْ تَمُرَّ فَوْقَهَا دُونَ َأنْ َتتَأَذَّى الَّسيَّارَةُ.. لَقَدْ أَفْرَغَتْ اْلَعجَلةُ الْأَمَامِيّة مَا ِبجَوْفِهَا نِهَائِيّا، وَعَلَيْهَا أَنْ تُغَّيرَهَا. الطَّريقُ عَامِر بِالَّسَيَّاَراتِ َواْلحَافِلَاتِ َوالَّشَاحِنَاتِ. هَلْ تَطْلبُ الْمُسَاعَدَةَ؟ وَلَكِنْ مَنْ سَيتَوَقَّفُ لِيُسَاعِدَهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُبَكّرِ، َواْلجَمِيعُ مُسْرِعُونَ إِلَى أَعْمَالِهِمْ؟ >>..

حاولت الكاتبة أيضا، إبراز المرأة كعنصر اجتماعي مثير للجدل، تشمله الصراعات السياسيّة، الفكريّة والاجتماعيّة. لنجدها تركّز مضمون نصّها، حول تموقع المرأة بين النخبة الاجتماعيّة وسعيها إلى بلوغ قمّة الهرم السياسي. إذ يتمثّل حلم شخصيتها الرّئيسيّة في القصة في الفوز بمنصب رئيسة للبلاد:. لكن قوّة الكبح وأسلوب الغدر والمؤامرة الذي مورس ومازال يمارس كشكل سياسي إقصائي، وبسبب تحجّر الموروث الذهني والدّوافع الأيديولوجيّة التي تجعل استعباد المرأة ركيزة للقهر الاجتماعي، يدمّر التجربة ويحول دون تحقيق طموحات بطلة القصّة:<<. بَاتَ اْلحَدِيثُ لَيْلتَهَا فِي كُّل الْأَمْكِنَةِ وَبَيْنَ كُّل النَّاسِ حَوْلَ الَّرئِيَسةِ الْمُنَتخَبةِ وَلَا شَيْءَ غَيْرَهُ... هَا هِيَ الَّرَئِيَسةُ َتظْهَرُ عَلَى الشَّاَشةِ، َوتَشْرَئُّب الْأَعْنَاقُ، وَتُفتَحُ الْآذَانُ ِلتُنْصِتَ، وَتتَسَّمرُ اْلعُيُونُ عَلَى الْمَشْهَدِ. وفجأة سُمِعَ دَويٌّ اِهتَّزتْ َلهُ الْمِنَصّةُ اِهتِزَازًا، َوتَهَاوَتِ الَّرئِيَسةُ عَلَى الْأرْضِ مُستَسْلِمةً لِلْغِيَابِ. >>..

أولت الكاتبة عناية هامّة لهذا الحدث وأبقت نصّها مفتوحا على تصورات مستقبلية من خلال تناولها الأدبي لقضيّة على غاية من الأهميّة في الصراع الدّائر حاليا، داخل المجتمع التونسي الثّائر على مكبّلات الماضي وحرّاسه وبعيدا عن معالجة مقاصد الذات المحدودة وعن الاستغراق في إرهاصات الأنا. إذ تطرّقت إلى مقاصد نفعيّة ذات أبعاد جماعيّة محورية. وصوّبت نصّها بدقّة نحو الحالة الذهنيّة التي يعيشها القارئ التونسي لجعله أكثر تقبّلا لهذه القضيّة التي فرضت نفسها بقوّة في مجالات السجالات الفكريّة الأيديولوجيّة والصراعات السياسيّة الاجتماعيّة. تؤكّد بذلك زهرة مراد أنّ الأدب فنّ في خدمة قضيّة الأنسان وماهيّة وجوده.

كما أنّ الكاتبة بيّنت موقفها داخل النّص بكل وضوح حول علاقة الرّاهن بالهدف المنشود في القصّة: << لَا أَفْهَمُ كَيْفَ َتْحتَقِرونَ الْمَرْأَةَ وَقَدْ أَثْبتَتْ أَنَّهَا جَدِيرَةٌ بِكُّل ِاْحتِرَامٍ! أَلَا تَرَوْنَ مَا ُتحَقِّقُهُ فِي اْلعَالَمِ؟ إِنَّهَا فِي كُّل َمجَالٍ! أَلَا َتعِيشُونَ زَمَانَكُمْ؟ وَمَا تَقُومُ بِهِ مِنْ أَدْوارٍ فِي أُسَرِكُمْ، أَلَيْسَ كَافِيًا ِلَتْعتَرِفُوا بِقُدُرَاتِهَا؟!..>>..

في واقع الأمر، يبرز هذا الموقفُ في نصوص أخرى من المجموعة، حيث تطرّقت زهرة مراد إلى وضعيّة المرأة داخل مجتمع تقليدي تهيمن عليه الثقافة الذكوريّة والتركيبة الذهنيّة الماقبليّة للمجتمع والمتعارضة مع وجهة العصر. وهو ما يصنّف هذه النّصوص ضمن الكتابة الأدبيّة الرّياديّة التي تجرّأت على طرق مسالك المحرّم والمسكوت عنه. وبما أنّ المخزون الثقافي الفردي والجماعي، قابل للتّعديل ، سلبا أو إيجابا، من خلال المراكمة المعرفيّة، فإنّ النصّ الجاد هو الذي يهدف إلى تغيير موقف المتلقّي أو تعديله ليكون مستسيغا لفكرة النّص أو حتّى رافضا لها إن اقتضى الحال. فإنّ الكاتبة أجادت المناورة الكتابيّة وذلك بتهيئة ذهن المتلقّي من خلال ما بادرت بعرضه في بدايات نصّها :.

من خلال هذا المونولوغ اختزلت البطلة الوضع السياسي للمرأة التونسيّة، فهي غير متواجدة في التنظيمات السياسيّة وتشكو من مكبّلات عديدة تحول دون نشاطها السياسي. لكن حبّها للوطن ليس محلّ مجادلة. كما أنّها تتوفّر على قدر كبير من روح المشاركة الاجتماعيّة. لقد رتّبت الكاتبة أفكارها بعناية كما عبّدت المسالك ووضعت العلامات الدّالة للوصول بالقارئ إلى غايات النّص دون أن يتيه أو يحيد عن المقصود.

من البديهي في هذا الظّرف بالذّات، أن تكون الكاتبة متأثّرة في كتابتها بمفعول الثورة وشحناتها. فجميعها محاور وجزئيات خلّفت سمات بارزة في نصوص العديد ممّن اهتمّوا بالكتابة الإبداعيّة وتفاعلوا مع أحداث الثورة التونسيّة وظواهرها وصراعاتها وسجالاتها السياسيّة والفكريّة. فلقد لمسنا مدى تأثّر بنية العديد من نصوص هذه الكاتبة بالبيئة الجديدة التي شكّلت دافعا أساسيا في تجربة زهرة مراد القصصية. رغم التباين الجليّ بين مضمون النّص، من جهة، والمخزون العقدي الاجتماعي المسلّم به من جهة ثانية، فإنّ الكاتبة استطاعت من خلال تواصلها مع القارئ جلب التعاطف إلى شخصيتها الرئيسيّة في النصّ وإظهارها بصورة الكائن الاجتماعي المتفوّق، بذات كاريزميّة مهيبة.

إنّ ما يلفت الانتباه في كافة نصوص مجموعة «صديقي المشاكس" يتمثّل أساسا في أنّ الكاتبة توفّقت في المزج بين الواقعي كشكل طاغ على نصوصها والمتخيّل وما تضمّنه من مقاصد تستوجب من القارئ تريّثا وفطنة لاستطلاع مكامن النص.

 

عبد الحميد الطبابي