طارق الشّيباني، وطن في قاعة الانتظار، رواية، دار زينب للنشر والتوزيع، تونس، 2019، 298 صفحة، ثمن: 20د.ت ISBN : 9789938390674

 

 

تناول جلّ الرّوائيين التونسيين في أعمالهم الأخيرة جوانب عديدة من المنظومة السابقة ل 2011.  وكانت الانتفاضة، كحدث إشكالي، حاضرة في روايات المصباحي والواد والسّالمي وبن عثمان، وغيرهم. لا شكّ أنّ القائمة ستبقى مفتوحة على أسماء ومشاريع أخرى، حيث ستظل الانتفاضة، "مَحْنُونَةً" كانت أو مَحْمُودَةً، مشغلا رئيسيا في وَرَشاتهم لوقت ليس بالقصير. إنّها تشكّل اليوم مصدرَ انشغال فكري ووجودي للروائيين وقد تكون مطبّاتها الكثيرة حافزا مهمّا لإبداعاتهم القادمة. فكثيرا ما وُلِدَ الإبداع من رَحِمِ العلاقات المأزومة.

 

 

لكن، لم يكن من اليسير عليهم التّعاطي روائيا مع هذا الزّمن المفصلي في ظلّ الغوغاء السّائدة التي باتت، كالثقب الأسود الدّوّار، تلتهم على حدّ السّواء مناصرةَ المناصرين وشحنَ المناوئين وشرحَ الشّرّاح وتأويلَ المؤوّلين. إنّ الانفلات الكلامي حول "الثورة" التونسية أو باسمها قد نمّط الأقوال وسطّح الأفكار كما أشاع بيننا مقاربات تُعْوِزها المسافة من الأحداث وسرعان ما يعتريها التكلّس. فهو بمثابة البالوعة التي تسوق كل شيء، وبلا تمييز، إلى المجاري. فلا يستطيع الفِكَاكَ منها إلاّ من تحمّل عناء التّوَقِّي وجدّف ضدّ تيّارها الجارف.

في روايته الأخيرة وطن في قاعة الانتظار (دار زينب، 2019)، لم يبتدع طارق الشيباني سردية جديدة حول تلك الفترة. بل إنّه اعتمد في بناء أحداث قصّته على مظاهرها السّياسية والاجتماعية الأكثر تداولا: فساد العائلة الحاكمة، عطالة الشباب، تفشّي التسلّط السّياسي بالتوازي مع تنامي الظاهرة الإسلاموية في المجتمع وتفاقم الشّعور بالخيبة بعد 2011.  بيد أنّ الرّواية توحي إلى قارئها بالجهد الكبير الذي بذله الشّيباني للنأي بسرده عن طاحونة الشيء المعتاد. إذ لا معنى، في هذا المجال، لتجديد الخطاب الرّوائي حول تلك الحقبة التاريخية إلاّ بتحصينه بسينوغرافيا مخصوصة تلعب دور المضادّات الحيوية وتحول دونه والسّرديات الجاهزة، خاصّة تلك التي تصوغ الأحداث صياغة موبوءة بفيروس الأيديولوجيا المقيت. فأين يكمن أسلوب التوَقّي في الرّواية وما هي دلالته ضمن مقاربة الشيباني للشّأن الوطني؟

1-دائرة الانتظار والانكسار

لقد اختار لها عنوانا مجازيا فتمثّل الوطن شخصيةً معنوية كانت قابعة في قاعة الانتظار منذ زمن مديد تترقّب التحوّلات الكفيلة بأن تحقّق الحد الأدنى من العيش الكريم وأن تضمن نصيبا من العدالة الاجتماعية والحرّية. لكنّ الوطن لا يزال عالقا إلى اليوم بتلك القاعة رغم مرور قطار الانتفاضة. يعيش أبطال وطن في قاعة الانتظار في حومة شعبية بالعاصمة وتعوّدوا، مثل عموم التونسيين، على ألاّ يعلّقوا على المستقبل آمالهم لأنّها ما انفكّت تتبخّر من محطّة سياسية إلى أخرى حتّى تبدّد جانب من العمر في الانتظار واستبدّ اليأس بالقلوب. ذلك هو الخيط الدرامي الرّابط بين المسارات الفردية لكلّ من الأب "سي ناظم" وابنيه "ياسر ويسير" ورجل الأعمال "سي الفاضل". يروي الشيباني أطوار حيواتهم بالتناوب في فصول قصيرة وقد عنونها بأسماء شخوصه المحوريين. رغم أنّ هذه المسارات تبدو متوازية في الكتاب إلاّ أنّها تتقاطع زمنيا لأنّ أحداثها تمتدّ من أواخر زمن بن علي إلى بعيد الانتفاضة الشعبية. كما أنّ مشاغل شخوصها تتشابك داخل الفضاء العائلي وفي دائرة "أولاد الحومة"، فتتماهى تجربتهم المحلّية مع معاناة فئات عديدة من الشعب التونسي.

جعل الشيباني من عائلة "سي ناظم" ومن حومتها الشعبية واجهة مصغّرة يرصد من خلالها نبض الوطن الكبير عندما كان يرزح تحت نظام السّابع من نوفمبر. لقد ولد التوأم «ياسر" و"يسير" في ذلك الزّمان. وتحصّل يسير على البكالوريا ثم الإجازة في التاريخ كما أحرزت أخواتُه، من قبله، على شهائد جامعية مماثلة في اختصاصات أخرى. ودخل كلهم تباعا في عطالة دائمة. كان "يسير" يساريَّ الميول فيما اعتنق "ياسر"، الذي لم تسعفه الدّراسة، فكرا أصوليا حتّى أضحى، في نهاية الرّواية، إرهابيا عالميا مكتمل الشروط يقضّ مضجع الأمن الإيطالي والتونسي على السّواء. رغم أنهما على طرفي نقيض، كان الأخَوَان لا يفترقان ويتعاضدان ويغلّبان الحميّة الأسرية على غيرها من الرّوابط. فكانت العائلة والحي، في ذلك الزمن العصيب، الحاضنة الطبيعية لكليهما ولكلّ "أولاد الحومة". بعدما سقطت كل الحواجز الواقية للوطن، باتت تحدوهم جميعا عاطفة جيّاشة لحماية بعضهم البعض ولتسييج فضائهم الدّاخلي درءا لما يرون فيه تهديدا خارجيا.

لعلّ من نافلة القول أنّ السّلطة كانت ظالمة، فاسدة، قامعة إلخ... إلخ. فلا جدوى في أن يجترّ الرّوائي أوصافَها المعلومةَ في مَحكِيته أو أن يحاول التّوقف عند كل محطّاتها. إن مكامن الخراب فيها لا تحصى ولا تعد. فكم من رواية أصابها زخمُ تلك الوقائع بالتخمة فأفسد بناءها وكم من كاتب جرّته حيثياتُ زمن بن علي وهوامشُ انتفاضة2011 إلى المتاهة فبدت كتابتُه السّرديةُ أقربَ إلى التحقيق الصحفي أو التّدوين التاريخي منه إلى الإبداع الأدبي.

توحي الصياغة النهائية للنص بحجم العمل التحضيري الذي قام به الشيباني في مسودّاته. ويبدو أنّه قد أخضع مادّته السردية إلى الانتقاء والتخفيف والتطويع بشكل مكثّف ليختزلها في مسارات ثنائية ومبسّطة تعيد إلى الواجهة الخصائص الأساسية لتلك الحقبة. يكفي أن نطّلع على مسار التوأم "ياسر" و"يسير" لنتعرّف من خلاله على المِحن الثّلاث التي عانى ولا يزال يعاني منها الشباب منذ التسعينات: الفشل الدّراسي، بطالة حاملي الشهائد الجامعية والحَرْقَه إلى إيطاليا واحتراف الإرهاب. إن صلة "التوأمة" بين الأخوين، إن صحّت العبارة، لا تحيل في الرّواية على الرّابط الطبيعي عند الولادة فحسب وإنّما تعبّر أيضا عن وحدة مسارهما البائس وكأنّ تلازم مصيرهما لا يقلّ قدرية عن تزامن منشئهما.

بشكل عام، يعيش شخوص الشيباني حالة فصام دائم مع واقعهم فضلا عن أنّ جلّهم يشتكي ضربا من الانفصام الدّاخلي ويحملون أسماء تشهد، هي أيضا، عن الهوّة بين المنشود والموجود في مساراتهم: مرّ الثنائي «ياسر" و"يسير" بأوضاع في غاية العسر كما أنّ والدهما "سي ناظم"، المدرّس المتقاعد أضحى رجلا مقهورا وعاجزا عن ترتيب أحواله. فهو، والحال تلك، أبعد من أن يلعب دور العنصر ال«نّاظم" داخل الأسرة وخارجها. أمّا رجل الأعمال، " سي الفاضل"، فإنّه يحمل اسما مناقضا لسلوكه وفاضحا لفساده الصّارخ.

ظاهريا، لا تجمع بين "سي ناظم"، ،"سي الفاضل"، علاقة تذكر عدى بعض اللقاءات النادرة بمقهى الحومة. لكنّهما يمثلان مرحلتين فارقتين في تاريخ تونس المعاصر وقد قوّض التباين الشديد بينهما أسسَ الدّولة والمجتمع مُنبئا، منذ بداية الألفية الثانية، بالخراب الآتي. ينتمي سي ناظم إلى جيل الستّينات الذي أوكل إلى المدرسة الدّور الرّئيس في كل مجالات الحياة. فكانت آنذاك، وإلى وقت ليس بالبعيد، منارة للمعرفة ومركزا لتكوين المهارات الفنية والكفاءات العلمية ومصدرا للقيم. كانت المدرسة، بالخصوص، المصعد الأساسي والمشروع للترقّي الاجتماعي. فلا عزاء ل"سي ناظم" في عطالة كل أفراد عائلته وهو الذي كرّس حياته للمدرسة وحرص على نجاحهم في الدّراسة حرصا شديدا. بل إنّ مصابه كان أقوى وأشدّ في انقلاب القيم والمفاهيم الاجتماعية من حوله.

أمّا جاره سي الفاضل، ابن الأربعين حولا، فهو من طينة أخرى أو هو بالأحرى يتحرّك وفق برمجية ذهنية مغايرة تماما كان قد روّج لها نظام بن علي. ولقد كرّسها أصهاره على نطاق واسع في التسعينات حيث استباحوا الملك العام والخاص جاعلين من تونس مقاولة عائلية. فاضطُرّ «سي الفاضل" إلى الانخراط في المافيا حفاظا على شركته المختصّة في تصدير الخردة عبر ميناء رادس. لكن سرعان ما استطاب الرّجل وضعَه الجديد لأنّه يُجِلُّ الربحَ السّهلَ ويتوسّل إليه بكل السّبل مستهينا، هو أيضا، بالدّولة والقانون. استظلّ سي الفاضل بشراكته مع الطرابلسية لتهريب وبيع الأثار الوطنية إلى تجّار أجانب. اشتغل لحسابه الخاص فانتهى به الأمر في السّجن لسبع سنين قضّاها كاملة.

2-اليأس التونسي: عمق الشعور وعسر التوصيف

من اللافت للنّظر أنّ أحداث الثورة نالت حيّزا بسيطا جدّا في الكتاب لا تتجاوز فقراتُه مجتمعةً حجمَ الصفحتين أو الثلاث. إذ يروي الشيباني ما حصل في 14 جانفي 2011 باقتضاب شديد كمن يفتح قوسا صغيرا ليسوق مضطرّا حدثا عرضيا. لقد اعتصم شخوص الرّواية بالانتفاضة اعتصاما خالوه وثيقا إلاّ أنّ حبلها كان قصيرا جدّا، فتهاوت من أعلى سلّم الزمن إلى أسفله لتتبدّى في أذهانهم فعلا مستهجَنا ودونيا وشاذّا، يُذكر ولا يقاس عليه وربّما لا يستحق الذِّكر أصْلا. ولأنّ العبرة فيها بالخواتيم، فإنّ الشيباني سرّع في وتيرة السّرد واقتصر المسافات ليقف على الحصيلة:" اهتمّ ياسر ويسري، كأغلب التونسيين، في البداية بهذه الأحداث التي تهزّ البلد. أصبحت المسالة عادية وتافهة بالنسبة إليهما. لم يبق مهمّا في تونس غير الجوع والفقر وكيفية التخلّص منهما، بل لم يبق مهماّ غير مغادرتها".

لا غرابة في أن يعبّر «أولاد الحومة" ذَوُو الدّخل المتواضع عن خيبتهم من الثورة بعدما "ارتفعت الأسعار ونضبت مواطن الشّغل أكثر ممّا كانت عليه واشتدّت دائرة الخناق وضغطت بقوّة على رقاب الجميع باستثناء أهل السّياسة". فتلك أسباب معلومة ومشروعة. بيد أن موقفهم لا يخلو من تعقيد، إذ هم يتبرّمون من ذلك الحدث أيضا لأسباب غائمة لا يفصحون عنها أو بالأحرى لا يقدرون على الإفصاح عنها. وكأنّ الانتفاضة، التي لم تف بما وعدت، قد أحيت في ذاكرتهم ضغينة ضاربة في القِدم ضدّ صلف التاريخ في حقّهم: "لقد دخل الوطن منذ الثورة، لا من قبل ذلك بكثير، منذ عهد حنّبعل وعلّيسة والمملكة النوميدية والممالك "الوندالية المتوحّشة.... قاعة انتظار كبيرة يصعب الخروج منها" كما يصعب توصيفها كلّما حاولنا التدقيق في أسباب هذا الانتظار الأبدي والمرادف لليأس المزمن.

قد يذكّرنا ثنائي الشيباني، "سي ناظم" و"سي الفاضل"، بثنائي بيكات الذي ترقّب عبثا مجيء جودو. فكلّهم على بيّنة من استحالة ما يستنظرون. رغم أنهم يشتركون في التعبير عن موقف وجودي ذي أبعاد إنسانية، فإن ظاهرة اليأس، كما صوّرها الشيباني في روايته، تحمل ملامح تونسية صرفة وتبدو لي أقلّ فردية وأكثر قتامة من المشهد البيكيتي. فهي تعبّر عن تمثّلنا للزّمن تمثّلا مأساويا وشائعا فيما بينا شيوع جلوسنا بالمقاهي أين "الجميع ينتظر الجميع وأين سي ناظم ينتظر(..) هو الآخر حدوث شيء ما. حتّى إن لم يأت هذا الشّيء. فتكفي وحدها فكرة الانتظار". إنّ انتظار الانتظار، في نسخته التونسية، لا يحيل على فكرة واضحة المعالم بقدر ما يؤشر على مزاج عام أكثر غموضا يضمر، فيما يضمر، درجة عالية من عدم الرّضا على المنجز الجمعي ويتطلّب، بالتّالي، مزيدا من التنقيب في ذاكرتنا عن أسبابه.

في إصداره الأخير، وطن في قاعة الانتظار، ينكبّ طارق الشيباني على مساءلة تاريخنا الرّاهن مساءلة جريئة ويسهم بأدواته الرّوائية المخصوصة في توسيع وإثراء تلك الورشة التي فتحها من قبله كلّ من المصباحي والعلوي والواد.