عادل الكوكي، مصطفى  خزندار، دراسة بيوغرافية واقتصادية(1837-1873)، دار المسيرة، 2021، 30 دينار.

 

 

في الواحد والعشرين من شهر أكتوبر 1873 عُزِلَ الوزير الأكبر مصطفى خزندار. ثمّ صودر جزء هام من أملاكه الطائلة.  فكان سقوطا مدوّيا أفرح عموم التونسيين وأشعل آنذاك حربا كلامية شعواء بين خصومه الكثيرين الذين اتّهموه بارتهان المُقَدّرات الاقتصادية والمالية  للإيالة  و بين زمرة مناصريه من الصحافيين ورجال المال والأعمال. لقد اشتهر الرّجل  بنهبه  للمال العام على مرأى ومسمع من البايات والحاشية ورغم أنف الرّعية. فبات اسمه، في المعجم التونسي، مرادفا للحاكم الفاسد الذي ينتصر لعائلته على حساب الدولة ويوظّف سلطته للإثراء الفاحش وغير المشروع.

 

 

غير أنّ اسم "مصطفى خزندار" لم يشهد منذ ذلك الزمان تداولا مثل الذي شهده بُعيد الانتفاضة الأخيرة حيث استحضره التونسيون بكثافة  في 2011 عبر وسائل الاتصال السمعي البصري والتواصل الاجتماعي وأطلقوه على آل بن علي تشهيرا باستيلاء "الطرابلسية" على مصادر الثروة في البلاد. في الواقع، إنّ المنهج الذي اعتمده بن علي لاستملاك المال العام، أو في جانب كبير منه، لا يحيلنا على الأساليب الخزندارية المفضوحة والفجّة بقدر ما يتقاطع مع طريقة محمود بن عيّاد الذي استعاذ ،كما نعلم، بالتشريعات الدولية لتحصين سرقاته. لا ننسى أنّ بن علي وبن عياد قد احتميا  بالخارج  بعدما أودعا الأموال المنهوبة بالبنوك الأجنبية فأوقعا، بالتالي، الدّولة التونسية المتضرّرة في متاهات قانونية ودولية لا خلاص منها. رغم أنّ الخزندار قد انصاع إجمالا للأحكام الصادرة ضدّه ولم يلذ بالفرار إلى الخارج،  فإنّ صورته في  الذّاكرة الجماعية التونسية بدت لي أكثر حضورا وأشدّ قتامة من سِيَرِ بن عيّاد وشمّامة. لقد اختزلت انتفاضة 2011 كل مسيرة مصطفى خزندار الذاتية والسياسية في تلك النظرة السلبية  فاعتبرته أكبرَ رمز للفساد وعرّابَا للناهبين في بلادنا  قديما وحديثا. ثمّ اتسع مجال استعمال اسمه كنايةً "للمتمعّشين" من السلطة بشكل عام ليصبح لقب "الخزندار"، في ظل تحلّل الخطاب السياسي الرّاهن، شتيمة سهلة  يرمى بها الخصوم  جزافا ودون معرفة دقيقة بالحقائق التاريخية والأحداث التي حفّت بذلك الاسم وبحياة صاحبه.

في كتابه مصطفى خزندار،دراسة بيوغرافية واقتصادية(1837-1873) الصّادر أخيرا عن دار المسيرة، يسعى المؤرّخ عادل الكوكي إلى تجاوز هذا التمثّل السائد  لشخصية "سيدي مصطفى" والذي " يفسّر، كما يقول الكوكي، عدم وجود أي دراسة تاريخية إلى حدّ علمنا حول هذا الرّجل" معتبرا أن نفور الباحثين من تناول سيرته قد ترك فجوة في المبحث التاريخي التونسي حول منظومة الحكم الحسيني. لم يفرده المؤرّخون  بدراسة مخصوصة أيضا لأنّهم مرّوا حتما بسيرته في دراستهم لتلك الفترة ولأن علم التاريخ الحديث يولي عناية أكبر إلى تحليل الظواهر العامة والمُهيكِلة للأحداث التاريخية.

لن أخوض في الجوانب الأكاديمية لهذه الأطروحة فإنّ أهل الاختصاص أدرى بشعابه وقد قالوا فيها قولهم. فلا شكّ أنّ اعتماد الكوكي منهجا يجمع بين ال"هيستوغرافيا" و"البيوغرافيا" قد ساعده على التجسير بين مسيرة  مصطفى خزندار الشخصية وبين أدواره السّياسية المتعدّدة في البلاط الحسيني. لكن  لا يخفى على الكوكي عسر ما يرتئيه في مبحثه لكسر تلك الصورة.  بصرف النّظر عن مدى صحّة ما نسب إلى "الوزير الأكبر"،  يصعب  علينا اليوم التمييز بدقّة بين أفعاله آنذاك  وانطباعاتنا حول شخصه التي توارثناها، كتونسيين، جيل بعد جيل. إضافة إلى أنّ القارئ يعي أن مثل هذه الدّراسة، على أهميتها العلمية البيّنة، لن تنهي جدلنا القديم المتجدّد. إذ ما فتئ شبح "الخزندار" يُطِلُّ برأسه من جديد كلّما عاودنا الفساد واستشرى في مفاصل الدّولة التونسية، كما هو الحال اليوم.  فأين يكمن  جديد هذا الكتاب؟ وما هي إسهامات عادل الكوكي  لتعديل  صورة "سيدي مصطفى"؟

إنّ الطابع الأكاديمي لهذا العمل  سيسهم في إنارة الرأي العام التونسي بمجريات الأحداث  التي دفعت برجل دولة مثل مصطفى خزندار إلى  خروق  أضرّت  بسمعته  وبهيبة السلطة على حدّ السّواء. بيد أنّ ما يشدّنا إلى هذا الكتاب هو بالأساس شغف الكوكي بمبحثه التاريخي وسعادته بالتعاطي مع الأرشيف الوطني بشكل مباشر ومن دون وسائط. لم ينجز عادل الكوكي هذه الدّراسة  حبّا في الخزندار وإنّما كانت تحدوه طاقة جامحة لدحض مسلّمات كثيرة  بعد أن  تفحّص دفاتره الخاصة وتصفّح مكاتيبه إلى القيّاد واطّلع على رسائله الرّسمية إلى قناصل الدّول الأجنبية بتونس وعلى كمّ هائل من الوثائق الأصلية الأخرى. إنّ الكوكي  يقرّ بأنّ الخزندار كان لا يتورّع من الاستيلاء على المال العام  لتنمية ثروته الشخصية. ولكنّه يعتبر أنّ الوزير الأكبر للإيالة التونسية لم يكن على تلك الدرجة من السلبية  التي وصفه بها  خصومه  مثل خير الدّين والجنرال حسين و دي فييي وغيرهم. بل إنّه يُحمّل المؤرّخيْن بيرم الخامس وجون قانياج مسؤولية شيطنة الرّجل على نطاق واسع وتأبيده في دور المحتال.

يجب، في هذا الباب، أن نميّز بين المادّة الإخبارية التي استقاها الكوكي من الأرشيف والتي تميط فعلا اللثام عن جوانب عديدة من سيرة الخزندار وبين سعي الكوكي  المطّرد إلى توظيف تلك المعطيات لتعديل صورته. فإذا سلّمنا بأنّ تمثّلنا للخزندار قد شابته مبالغات كثيرة وأنّه يتطلب بالتالي  تصحيحا، فإنّ دفاع الكوكي عن مناقبه يتحوّل، في بعض الفصول من الكتاب، إلى مرافعة لا تخلو  من التعميم  وتستوجب، هي بدورها، تنسيبا.

سيجد المهتمّون بخفايا البلاط الحسيني ضالّتهم في هذا الكتاب. فهو يزخر بتفاصيل حول الصراعات التي كانت تشقّه وبمعطيات حول شبكة العلاقات الخاصّة والعامّة التي أرساها  الخزندار من حوله طيلة ثمان وثلاثين سنة. كما يحتوي الكتاب على وصف دقيق  للحياة اليومية لعائلته:  ينفذ عادل الكوكي، عبر الوثائق، إلى داخل قصوره بمنّوبة والحلفاوين والمرسى ليقف على أثاثها الفاخر وعلى ملبوس ومأكول "سيدي مصطفى" وحرمه المصون "للاّ كلثوم".  في هذا الإطار، يتميّز هذا البحث  بتسليطه الضوء على أنشطة كلثوم التي كانت تلعب، فضلا عن إشرافها على أملاك زوجها، دورَ الوسيط بين زوجها وذويها داخل العائلة الحاكمة .إنّ سردية الكوكي في هذا المجال دقيقة جدّا و تدحض، فيما تدحض، تلك الأفكار الرّائجة حول تدنّي المستوى التعليمي للخزندار حيث أطلعنا الكوكي على محتوى الدراسة التي تلقّاها المملوك مصطفى في  طفولته وشبابه. ف"إضافة إلى تمكّنه من اللغة العربية(...) تعلّم اللغة الإيطالية التي كانت اللغة الأجنبية الأولى المستعملة في بلاط باردو". ولقد تولّى في عهد أحمد باي خطّة الكتابة  وكان توّاقا إلى عصرنة الإدارة التونسية رغم ثقافته التقليدية كما أرسل  إبنيْه، محمّد ومنجي، إلى باريس حرصا منه على تكوينهما تكوينا علميا حديثا.

دفاعا عن مصطفى خزندار، أورد الكوكي أقوالا لدبلوماسيين وشخصيات وازنة عاصروه وشهدوا له بالكفاءة خاصّة في المجال الدبلوماسي.  لقد كانت القوى الاستعمارية المتصارعة  على مصير تونس آنذاك  تخشى  ردود فعل الوزير الأكبر وتحسب لقدرته الفائقة على المناورة ألف حساب . فكثيرا ما لجأ إلى خلط الأوراق بين الفرنسيين والإيطاليين والأنقليز حفاظا منه على ما تبقّى من سيادة الباي. لأنّه لايعير اهتماما إلاّ لعائلته وثروته الشخصية ولا يدين بالولاء  إلا لسيّده الباي ، فإنّ مناهضته للفرنسيين لم ترتق إلى مستوى الشعور بالغيرة على البلاد. على كل، من الثابت أنّ علاقة الخزندار بالقناصل الفرنسيين قد تأزّمت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فكان من الطبيعي، بالنسبة للكوكي، أن يحترز  ممّا روّجته  الدّعاية الاستعمارية حوله. لقد شهّر الفرنسيون به قبل ثورة بن غذاهم وأثناءها  وبعدها ولم يكن ذلك دفاعا عن الرّعية التي تضرّرت من مضاعفة المجبى بقدر ما كان يشكّل  منهجا مدروسا للتخلّص من الرّموز الكبيرة للبيليك (le beylik) قبل انتصاب الحماية. لكن ما هو موقف الكوكي من الفساد المالي للخزندار  ومن قسوة هذا الأخير على الرّعية؟

رغم الجهد التوثيقي الكبير  الذي بذله عادل الكوكي  للتدقيق  في مصادر ثروة الخزندار،  فإنّ خطابه، في هذا الجانب من القضية، بدا لي  خطابا سجاليا يغلب فيه التبرير على التفسير، إذ  سعى إلى التهوين من حجم المسؤولية الفردية للخزندار وحمّل منظومة الحكم الحسيني العبء الأكبر  من الأزمة السياسية والمالية معتبرا أنّ الخزندار "لم يكن فيها إلاّ وزير تنفيذ" وأنّ سلوكه إزاء المِلْك العام  كان إفرازا طبيعيا ل"حكم الإطلاق" الذي يخلط بين الشأن العام والمجال الخاص. تدعيما لهذا الطرح،  يسوق الكوكي أمثلة كثيرة عن تغوّل رموز الطبقة الحاكمة آنذاك.

 

أخشى أن يكون منطق السّجال والمحاججة قد طغى على الفصول الأخيرة من الكتاب لأنّ عادل الكوكي يعلم، كمؤرّخ، أن مثل هذا التبرير كان  قد اعتمده، إلى حدّ كبير وعلى طريقته الخاصّة،  الخزندارُ نفسُه. ألم يشدّد، في مساعيه للصلح مع الصادق باي، على أنّه  لم يكن طيلة إدارته الطويلة للشأن العام إلا خادما مخلصا للعرش الحسيني و منفّذا أمينا لأوامر البايات الذين عمل تحت إمرتهم؟  ألم يتذرّع، في 2011، الفاسدون من موظّفي الدولة  بدورهم كأعوان تنفيذ محمّلين بن علي ونظامه المستبد مسؤولية استباحة المال العام؟. لن ننتظر طويلا حتّى تعود حليمة إلى عادتها القديمة . سوف يتكئ المتنفذون في السلطة اليوم، بعد خروجهم منها، على ذلك العكّاز لتبييض ثرواتهم  وغسل أعراضهم.