ذاع صيت لويس سبولفيدا الأدبي  منذ صدور روايته الأولى׃ العجوز الّذي كان يقرأ الراويات الغرامية ،  في أوائل التسعينات. و ظن البعض، رغم إقرارهم بطرافة كتابته السردية، أنّ شهرته السريعة آنذاك لن تعدُوٙ أن تكون  ضربا من ضروب  الموضة الأدبية و أنها  ستزول حتما بزوال صدمة الإعجاب التي تحدثها عادة باكورة الأعمال عند جل الكتاب  الواعدين.

واعتبرها آخرون مجرّد ظاهرة إعلامية مردّها حساسية القضايا الايكولوجية التي يطرحها سوبلفدا في كتاباته،  و كأنهم  بذلك يستنقصون بعض الشيء قيمتها الفنّية.

 كان سبولفيدا قبل ذلك الانجاز  السردي الهام  صحافيا  يساريا منشغلا بالسّياسة، وقد اِكتوى،  كبني جيله، بسعير دكتاتورية بينوشي في عز بطشها ، فخٙـبِر السجن ومشتقاته و كابد المنفى، وهو لا يدين ببقائه على قيد الحياة إلا للعبة حظ أو حسن طالع.  ثم اشتغل ،في  زمن أقلّ عسرا، بالسينما كتابة، إخراجا و تمثيلا وانخرط تدريجيا، بعد ذلك،  في نضال أكثر شمولية يتجاوز  الحقوق السّياسية للدفاع  عن، الأمازون، رئة كل الكائنات الحية على سطح الأرض، ضد جشع شركات التنقيب و التحجيم العملاقة. لقد صدر العجوز الّذي كان يقرأ الراويات الغرامية  سنة قبل اغتيال صديق سبولفيدا، شيكو مانداس، زعيم الحركة الإيكولوجية بالشيلى. فجاء الإهداء، بالطبعة الثانية، تأبينا لروح المناضل واعترافا، أيضا،  بما تدين به هذه الرواية لمنداس  و لسٙمره الجذّاب عن الحياة في الأدغال الاستوائية.

       هو لا يزال على يساريّته، مسكونا بالسّياسة.  لكن ٳسمه  ما فتئ يترسّخ في  حقل الرواية العالمية طيلة العشرية الفائتة بفضل إبداعه  الغزير المتميز. سارع المترجمون إلى نقل أعماله من الٳسبانية  إلى لغات الدنيا . فكان للأنقليزية الحظ الأوفر منها، ثم  الفرنسية التي قرأْتُ فيها أهم نصوصه مثل عالم الأقاصيِ( 2005,Le monde du bout du monde)، يوميات قاتل عاطفي ( مجموعة قصصية، 2002) ظِلّ ما كٌنّا عليه (2010). كنت أقول لنفسي في تلك الفترة ، وأنا  بين التخمين و التمنّي، لا بدّ و أنّ بعضا من كتب  سبولفيدا قد تٌرْجِم إلى لغة الضاد،  هنا أو هناك؛ ببيروت، القاهرة أو دمشق. على العموم، لم أكن بعيدا عن الواقع. فلقد بادرت دار الآداب سنة 1993 بنشر العجوز الّذي يقرأ...  في ترجمة  لعفيف دمشقية،  ثم مذكّرات قاتل عاطفي(اسكندر حبش، 2002)،  كما أصدرت  دار أزمنة للنشر والتوزيع في 2008 خطّ ساخن( محمود عبد الغني،) و قطار باتاقونيا(الياس فركوح).

     البقيّة قد تأتي. و قد لا تأتي...  لأنّ مشاكل التوزيع في العالم العربي، وهي كثيرة، أعاقت ولا تزال تعيق وصول هذه الترجمات ٳبّان صدورها للقارئ، فلا يطلع إلاّ على النّزر القليل منها إن أسعفه الحظ  باقتنائها ، بين الفينة و الأخرى، في معرض كتاب يتيم،  يٝقـام  ببلده في كلّ سنة مرّة. و قد يزهد القارئ العربي في الأدب العالمي المُعٙرّب و يكفر  بالتعريب و المعرّبين  إن وقع على ترجمة مُلتـبِسة، يمارس صاحبٌها الاقتباسٙ المتسرّع أو الاختلاسٙ المفضوح. لكلّ هذه الأسباب مجتمعة، لا نستطيع أن نتبيّن بوضوح نصيب الثقافة العربية الحديثة من هذا الزخم الأدبي الوافد علينا من أميركا اللاتينية بالخصوص.

       تمثّل أثارۥسبولفيدا الرّوائيّة  رافدا مٌهِمّا من هذه الطفرة الهائلة التي عرفتها الشيلى، الأرجنتين، المكسيك و البرازيل. فبلاد مشاهير كرة القدم هي أيضا تربة أدبية ذات بعد كوني.لقد تفطّن الغرب المهيمن، ولو متأخّرا،  إلى حجم أهميتها الايكولوجية؛  لكن يلزمه كثير من الوقت لكي يتكشّف عن ملامح القوّة الفكرية المتنامية في تلك الربوع.  أوطان أدهشت  العالمٙ ، عندما كانت ترزح تحت وطأة حكم العسكر، بهامات  كتّابها و مفكّريها المناهضين للاضطهاد، و ازداد إبداعها الأدبي تفجّرا و تالّقا في الحقبة الأخيرة و كأنّه ينأى بتنوعه عن تنميط  الّعولمة.

          يروي سبولفيدا في العجوز الذي كان يقرأ الرّوايات الغراميّة صراع الشيخ بوليفار مع نمرة شرسة ازدادت شراسة بعدما أجهز معمّرۥۥون متهوّرۥون على كل صغارها وأصابوا أباهم بجروح قاتلة. تتفنن أنثى النمر، و كأنّها قاتل متمرّس، في الفتك بسكان القرى المعزولة. تترصّد ضحاياها من البشر  أيّاما فتنفرد بهم لتهاجمهم ليلا وتقطّع  أوصالهم  ثمّ تتركهم  أشلاء متناثرة دون افتراسهم و كأنها تمثل بهم انتقاما لمفقوديها. إنّها تعبّر بذلك عن حرقة كانت أعتى  عليها من لوعة الموت، لا يشعر بوطأتها إلا جوزي انطونيو بوليفار، حليفها و غريمها في الآن نفسه.  هو حليفها لأنّه عاشر الحيوان في البرّية و خبِرسلوكه كما استأنس بالعيش طويلا بين سكان الأمازون الأصليين، قبائل شوار. و كان دائم الحرص على احترام نمط الحياة و التفكير لدى الشواريين بعدما تأذّى من حياته السالفة  بالحاضرة. هو أيضا غريم النمرة الهائجة،  لأنه كان المؤهل الوحيد لتخليص الناس منها، فقتلها في مبارزة نهائية تبدو فيها النمرة الثكلى و كأنّها تناشده الموت.

 من المؤكّد أنّ  الفعل الإبداعي لا يروم التأطير الأيديولوجي ويعسر تطويعه للأفكار المسبقة و القوالب الجاهزة. و كثيرا ما أدّت الأدلجة المعلنة إلى تخريب العمل و إفساد ذائقة صاحبه. يكفي أن نذكّر بما ألحقته الآلة الأيديولوجيّة السوفييتية بكتاب كان سيكون لهم شأن لو لم يلوّثوا أقلامهم بحبر الدّعاية ولم يسخّروا آثارهم لخدمة عقيدتهم׃ اشتراكية ذلك الزّمان. بيد أنّ هذه المقولة، على وجاهتها عموما، تبدو لي على قدر كبير من  النسبية  وتتطلّب تدقيقا عندما نلج عالم سبولفيدا الرّوائي׃ إن كانت جلّ شخوصه  تتحرّك في حلبة الصراع الدّائر اﻵن حول المحافظة على البيئة البرّية و البحريّة، فلهذا الكاتب مهارة عجيبة لتضمين القضايا في ثنايا النص الرّوائي دون إثقال كاهله بحيثياتها كما يتمتّع بدʼربة سردية تمكّنه من تذويب موقفه الفكري العام في منعطفات الحكاية ׃ في روايته،  عالم الأقاصي، مثلا، يصف الرّاوي، تصدّي أبطالها الثلاثة  لملوّثي المحيط و صائدي الحيتان  فيركّز على التّسلسل الدرامي لتحقيقاتهم حول الظروف الغامضة و المريبة  التي حفّت بغرق سفينة  صيد يابانية في المحيط الهادي. يوظف، في سرده للأحداث والمراحل، تقنيات الرواية البوليسية التي تفرز تشويقا و متعة هائلين لدى القارئ بينما لا يعتمد، في المقابل، إلا الإشارة الخاطفة واللّمحة السّريعة كلّما تعرّض لفكر Greenpeace العام و نشاطها في العالم.

       لا أدري لماذا ارتبطت في ذهني رواية العجوز الذي كان يقرأ الرّوايات الغراميّة ، قبل مطالعتها و حتى بعدها، بالعجوز والبحر لهمنغواي. تتّسع دائرة هذا الارتباط العفوي لتشمل مبيديك لمالفيل و غيرها من الرّوايات العالمية. ربّما لأنّ أبطال الحكايات الثلاث امتهنوا الصيد فلم يكتسبوا منه رزقا بقدر ما غنموا بفضله تجربة وجوديّة و إنسانية كبيرة. وربّما لأنّ عجوز سبولفيدا، أنطونيو جوزي بوليفار، كان دائما حريصا على أن يمضي ما تبقّى من يومه، بل قل ما تبقّى من عمره، في مطالعة كتب،  المجهول منها أكثر من معلومها. لكن يبدو أنّ بين الآثار الثلاث وشائج قربى فكرية و روحيّة أكثر متانة وعمقا تحتاج، للمقارنة بينها، إلى مقال منفرد يتناول بالتحليل هذا التكافل عن بعد بين همنغواي، سبولفيدا  و مالفيل.

 

     قد لا تتوفّر  روايات سبولفيدا  و مجموعاته القصصية دائما   على ذلك الانجذاب الجارف الّذي أحدثته   العجوز الّذي كان يقرأ الرّوايات الغراميّة إبّان صدورها و لا سيما بعد ترجمتها إلى عديد اللغات. لكنّ سبولفيدا يعير، في جل ما كتب، اهتماما مخصوصا لمتعة القارئ، ذهنية كانت أو أدبية. ففي كتبه الصغيرة الحجم حيّز فسيح يتّسع لكل طقوس اللذة الفكرية و يحتمل القراءات المتعدّدة ׃ الولهانة، المأزومة،  المناوِرة و حتّى المناوِئة منها. غيرأنّ عشاق السرد، على اختلاف مشاربهم الفكرية، كلّما استهلّوا كتابا من كتب سبولفيدا، لن  يقدروا  ،بعد ذلك،  على الإفلات من سحر نصوصه الفاتنة.

                                                                                       شعبان الحرباوي