الحياة الثقافية، محور العدد: منابع التنوير في الثقافة العربية الإسلامية، وزارة الثقافة و المحا فظة على                                                    

  التراث، الجمهورية التونسية،  العدد 205، سبتمبر، 2009، 185 صفحة، الثمن:2 د.ت، 88 :ISBN   03330-      

 

             لقد لفت انتباهي عنوان محور الحياة الثقافية لشهر سبتمبر " منابع التنوير في الثقافة العربية والإسلامية"و رغم  أني أتهيّب من مثل هذه المقاربات العامة و المفتوحة،  اقتنيت العدد من البائع  وشرعت في توريقه، مركزا على أسماء المتدخلين قبل عناوين بحوثهم. تلك طريقتي في انتقاء ما أنوي قراءته،  وقد لا أقرأ لاحقا ما انتقيت.  لكنّ هذه المرة راودني ، وأنا أقوم بتلك الحركة المعهودة، سؤال مناوئ : ما الذي حدا بالمشرفين على مجلة الحياة الثقافية  بإفراد عدد خاص لمنابع التنوير في الثقافة العربية الإسلامية والحال أن المسألة، على أهميتها التاريخية، فقدت الكثير من نضارتها الفكرية حتى كادت أن تجف ويصيبها الابتذال من كثرة الاجترار ?

لكن سرعان ما استدرك  نفسي مستحضرا حججا كثيرة تبرر اختيارهم لهذا المحور، ذلك أن إعادة المعاد،  في المجال الفكري تحديدا،  لا تخلو من وجاهة، ناهيك أن بعض الشعوب العربية التي عرفت حركة تعصير جادة في أواسط القرن الماضي  هي في حاجة أكيدة اليوم لاستلهام شحنة معنوية جديدة من مسار الرواد تساعد الأحفاد على ترميم حداثتنا المتآكلة تحت وطأة  الفكر السلفي الزاحف،  وفي ظلّ إخفاقات أخرى .  فللتذكير بمحاولات البناء الأولى عند الطهطاوي وخير الدين التونسي والثعالبي و  عبده  مزيتان لا يمكن إنكار أثرهما في إنعاش حركة التحديث،  لأنه يبرز مدى تأصل الفكر النهضوي في صلب الثقافة العربية الإسلامية التقليدية. فمن المفيد التذكير بأن هذه الأصوات الناقدة للتراث لم تأت من خارج حقله الثقافي العام ، بل هي ، في جلها، سليلة مؤسساته كالأزهر و الزيتونة و غيرهما، تكوينا و دراسة. كما أن التأريخ لمسيرتهم   ساهم و يساهم في كشف بعض المغالطات الفكرية التي  مازال يسوّق لها الخطاب الأصولي عندما يمعن في اعتبار التنوير بوجهيه النهضوي  والحداثي بدعة، انبتاتا أو منحى لقيطا.

 

  أما المزية الثانية التي يمكن لنا أن نجنيها الآن من مساءلة قديمة جديدة لهذه المنابع فتتمثل في الوقوف على محدودية المنهج التوفيقي بين ثنائية" الأصالة   والمعاصرة"، الذي طبع جل الآثار النهضوية.  تتنزل في هذا الباب المراجعة النقدية الجادة للأستاذ  عمر بوجليدة׃ " مفهوم الحرية السياسية لدى الطهطاوي و خير الدين". إن جديتها لا تكمن في عمق المقارنة بين المفكرين فحسب، بل لأنها تستوفي أيضا  شرطا أساسيا  لعملية المراجعة المتمثل في التزام بوجليدة لدى قارئه بتلك المسافة الزمنية و الذهنية  الفاصلة بين خطابنا الراهن و مستلزماته من جهة،   و بين خطاب المدونتين من جهة ثانية، فاستهل بحثه موضحا׃ "بطريقة  في التفكير مغايرة، وبكلام آخر، لن نطلب من الطهطاوي ولا من خير الدين لا حقائق، و لا أخطاء. و لكن سنبحث في الآليات الذهنية التي تحكمت في إنتاج ما اعتبراه "حقائق" و ما قدراه على انه أخطاء غيرهم".  وقد التزم بهذا المنحى في مقاربته  التفكيكية للأثرين. إن كانت الموضوعية ( اعتماد  المنهج العلمي) شرطا من شروط البحث بشكل عام،  فان التموقع الفكري  والحضاري للباحث و بحثه إزاء المدونة المدروسة  شرط إضافي يستلزمه المنهج الحديث.  أفضت عملية التفكيك لمفهوم الحرية في كل من تخليص الإبريز وأقوم المسالك بالأستاذ عمر بو جليدة  إلى نتائج تحيل على الراهن، فتذكي قدرتنا، نحن معشر القراء العاديين، على فهم ما نحن فيه.  فضلا عن أنها  ستثري النقاش و المساءلة العلميين بين أهل الاختصاص. لست مختصا لأستبين جديد الأفكار من قديمها في بحثه   و لكنه ينتهي إلى  ثلاث نتائج تشدد على نقاط الفصل أكثر من تأكيدها  على نقاط الوصل بيننا و بين هذين العلمين، وهي نتائج  مسكونة كلها بهاجس التجاوز  ووجوب تحقيق اختراقات فكرية في الراهن و في الزمن الأتي ، ألخصها كما يلي׃

 

1- نظرا لغياب الأرضية الفكرية في ثقافتنا التقليدية لمفهوم الحرية  من جهة،  ولحاجتنا الأكيدة للانخراط فيها، كقيمة إنسانية و الاستفادة من مزاياها من جانب آخر،  لم يتسن لهذين المفكرين القيام بمراجعة نقدية في تراثنا لترسيخ المفهوم و تأصيله عندنا ،فذهبا في كتابيهما إلى موازنة أو مطابقة بين المفاهيم الوافدة ( الحرية، العدل، الخ.) و مفاهيم السياسة الشرعية. فصودر بذلك المنشود بقوة   الموجود  و  سلطته.

 

2-_رغم ما أحدثته تلك الموازنة من خلط بين العقدي  و المدني، خطابا و ممارسة،فقد ساهمت المقاربات النهضوية في تطعيم الفكر العربي المعاصر و ذلك بإدخالها تحويرات في المصطلحات  والمفاهيم. 

 

3--بالتزامهم التوفيق بين المنشود و الموجود ،كمنهج فكري، حاول جل  النهضويين تجنيب المجتمع العربي  التقليدي صدمة الحداثة أو التخفيف من ارتجاجاتها المروعة.

 

يصبو بوجليدة ، في خاتمة مقاله ، إلى استشراف الآتي من علاقة العرب بالحداثة و ما بعد الحداثة مؤكدا على ضرورة اعتماد آداب المناظرة في تواصلنا الفكري مع الغرب المتطور.  و قد نبه خاصة إلى أمر بالغ الخطورة ׃ إن محاولة اجتناب الصدام الفكري( مع الذات و مع الآخر) بات اليوم مراوغة مستحيلة  وكأن التأجيل المتكرر للمواجهة، منذ عهد الرواد، لم يزد الضغط إلا انحباسا و لن يزيد الرجّة الآتية  إلا حدة و عمقا ، ستأتي مزلزلة و كأنها اليوم الآخر׃"ثمة صدام لا ريب فيه، و مواجهة لا فكاك منها تهز نظام الأشياء القائم هزا و تدك جسد الوجود دكا."

 

  رغم أن دراسة الأستاذ محمد بن الطيب حول ملامح التنوير في كتاب الثعالبي" روح التحرر في القران" أعدت في البداية لمقام آخر، فإنها تشارك سابقتها الوعي  بضرورة تحيين البحث  و محاولة اختراق المدونة النهضوية لاستشراف المستقبل وعيا منه بأن هذا التوجه المنهجي هو الكفيل وحده باستصلاح ما جاد به المفكرون الأوائل   و شد اهتمام  جمهور القراء  اليوم إليه.

تبرز هذه الدراسة الخصائص الأساسية للفكر  الإصلاحي عند الثعالبي و تساهم خاصة في التعريف بكتابه الذي لم يترجم إلى العربية إلا  في ثمانينات القرن الماضي، أي ثمانين سنة بعد نشره .بل إنها تتجاوز ذلك الرصد إلى محاولة إرساء قراءة نقدية لطرح الثعالبي. و قد سعى صاحب المقال إلى التركيز على هذه الوجهة  موضّحا׃“ فلسنا نروم التماهي معه و لا الانقطاع عنه، و إنما نروم قراءته قراءة "كاشفة تنويرية تكون بمثابة نور على نور". رغم أن الأستاذ بالطيب  يعتمد، من حين لآخر،  أسلوب المرافعة مدافعا عن المؤسسة الدينية الإسلامية و مفندا ما ذهب إليه الثعالبي  الذي يحملها المسؤولية الكبرى في نشر ثقافة التعصب و الكراهية إزاء النصارى ،لقد  بين كيف كان هذا المصلح من دعاة القطع مع   الموروث من التقاليد و الأخذ بالوافد من قيم التحرر  دون أن يكون علمانيا بالفهم الاصطلاحي للكلمة. كما حاول بالطيب الكشف عن مفارقات طبعت روح التحرر في القران منها تجنب الثعالبي نقد الوجه الآخر للغرب، الوجه الاستعماري البغيض،  و مبالغته في جعل مصر مثالا نهضويا  حث التونسيين على الأخذ به.

 

    

       غير أن جل البحوث الأخرى التي تتناول الموروث التنويري في الثقافة العربية  تشكو من غياب هذا التحيين فيمضي كل متدخل  في استقراء مبحثه لا يلوي على شيء ، و كأنه غير ملزم   بربطه باللحظة المعرفية الراهنة، همه الوحيد المحا فظة على النسق الداخلي لخطابه و آلياته .

 للأستاذ الحبيب الجنحاني في غير هذا المقام أكثر من مقال في مشاكل الحداثة.هو إذا في غنى عن أن أذكّر هنا بأعماله الجادة في هذا المجال، لو لا مداخلته بعنوان "القبيلة والدولة و الاقتصاد" ،التي فاجأني إدراجها ، بل قل حشرها، ضمن هذا المحور. فمتى كانت القبيلة منبعا للتنوير في المشرق أو المغرب، قديما أو حديثا? لا يخلو سؤالي من نزعة استفزازية متعمّدة ، لأن المفكر الجنحاني، في واقع الأمر، يسعى  إلى تبيان عكس ذلك  مشددا عبر أمثلة عديدة على أن القبيلة شكلت ، آنذاك، اجتماعيا و ذهنيا، معوّقا للدولة الإسلامية الجامعة. لقد كان لصاحب المقدمة، عبد الرحمان ابن خلدون،  و لمن خلفه من المفكرين، قدامى و محدثين، في هذا الباب أقوال مأثورة وأفكار موسومة لا تستوجب، خلافا لما ذهب إليه الجنحاني في مستهل دراسته، مسحا جديدا يأتي على كل صغيرة  وكبيرة في العلاقة الاقتصادية المهتزة بين القبيلة و الدولة.  لذلك يبدو لي هذا الخطاب التحليلي طوافا باهتا في عالم غابر ترامت أطرافه من الأندلس غربا إلي تخوم الصين شرقا و في دول قديمة توالت عبر العصور، انحلت و زالت أسباب وجودها،  فباعد الزمن بينها وبيننا.   و جب التأكيد،  رفعا لكل التباس،  على أن  لهذه الدراسة قيمة  توثيقية  ثابتة ، بيد  أنها  أدرجت في سياق  غير سياقها. فالقارئ لهذا المحور متعطش إلى تفكير متماسك يسلط الضوء على  التجلّيات  الجديدة للذهنية القبلية  في مجتمعات عربية  معاصرة وغير متجانسة ، متفاوتة في التطور و مختلفة في التصور .لفهم ما نحن فيه، لسنا في حاجة   إلى   أن نعيد، بشكل آلي ، رصد الظواهر عند السلف من عرب و مستعربة.  كما أن تمثّل الجنحاني  للعرب و المسلمين  كأمّة واحدة و ذات تركيبة اجتماعية و سياسية متجانسة تجيز له  السفر في بحثه ، وكأنه على "بساط الريح"، عبر الأمصار و الأزمان القديمة ، هو تصور تراثي و أسطوري لطالما أفسد  رؤيتنا لواقع حالنا و حجب عنا حقائق تاريخ أجدادنا

 

     تفطن الأستاذ الجنحاني إلى هذا الانزياح،  فحاول تدارك الأمر ولكن الربط جاء متأخرا حيث ينتهي به كلامه إلى خاتمة كان يفترض أن تكون المنطلق والمحور الرئيسي لدراسته، إذ يختمها قائلا׃“ أما علاقتها( القبيلة)ا بالسلطة فما فتئت قوية، بل ما تزال تؤثر في صنع القرار السياسي على حساب مفهوم الدولة الحديثة، أما تأثيرها الأعمق، والأشد خطورة فهو مجال الذهنيات، فالذهنية القبلية تؤثر اليوم في حياة الناس إلى حد كبير رغم المظاهر، وبالتالي فان الطريق نحو تحديث حقيقي و جذري للمجتمع  العربي الإسلامي ما يزال طويلا.” . و قد زاد في  تعثر هذا التحديث، على المستوى الفكري، تأجيل متكرر للبحث  العيني و الفعلي للظواهر في مجتمعاتنا الآن و تراكم للدراسات التي  لا تروم أن تلج حاضر العرب إلا بعد الطواف بين جنبات كتب المقريزي و الطبري و ابن الأثير. و كأننا لغز لا تفك طلاسمه إلا في كتب الأوّلين. فالإحالة المكثفة على الماضي السحيق،  التي يراد منها الوصل بين حاضرنا و ماضينا، كثيرا ما تفضي إلى نتيجة عكسية إذ تزيد على    غربتنا في الزمن الغابر وحشة المتون و "أمهات الكتب" التراثية، بينما نطالب، كقراء منشغلين بهذه القضايا، بأجوبة عن كيفية استصلاح الحداثة فكريا و مجتمعيا، و عن طرائق إعادة تأهيلها تدريجيا في بعض المناطق، كالمغرب العربي  والشام.

 

     لا أخفي تفاقم شعوري بالاغتراب و الاستغراب في الآن نفسه و أنا  أقرأ مقال الأستاذ محمد العربي  بوعزيزي "الثقافة العربية الإسلامية بين الاختلاف و التنوع والتعايش مع الآخر". قد يبدو الخوض في كل هذه القضايا مجتمعة في مقال واحد أمرا   مشروعا،  لكنه مستحيل الانجاز لما تثيره هذه المفاهيم من إشكاليات نظرية و لتشعب الجغرافيات الطبيعية و الرمزية في العالم الإسلامي القديم . يقوم  مقال البوعزيزي على تعميم غريب للمفاهيم و على مسلّمات و ما قبليات مفادها أن المنشود من "تسامح" و" حرية" و غيرها راسخ في الموجود( القرآن، السنة ، السيرة النبوية ، أخبار الخلفاء الراشدين و "الفتوحات"). للتدليل على صور التعايش مع  الآخر في ظل  الثقافة العربية الإسلامية، مثلا، يتماهى  البوعزيزي مع خطاب نرجسي "أصالي" مسكون بفكرة تفوق الإسلام و الأنا الحضارية ، إذ يقول ׃فلقد كان للفتوح العربية طابع خاص لا وجود لمثله لدى الفاتحين الذين جاؤوا بعد العرب  والبرابرة مثلا الذين استولوا على العالم  الروماني ، الأتراك و غيرهم، استطاعوا أن يقيموا دولا  عظيمة، إلا أنهم لم يؤسسوا حضارة، و كانت غاية جهودهم  أن يستفيدوا من حضارة الأمم التي قهروها، و لكن العرب أنشؤوا حضارة جديدة......"

يعزو عبد الإله بلقزيز في كتابه الأخير، العرب و الحداثة( بيروت، 2007)، هذا التماهي  إلى موقف ممانع أو مكابر  يرفض التموضع  في التاريخ  وينفر تحيين" أنا" الخطاب  في الزمن الراهن ، كما "ينطوي على وعي شقي أو موقف جريح يستنزفه ، نفسيا،  الشعور بتفوق الآخر و عليته" .فمن نافلة القول أن حضارتنا القديمة، كمثيلاتها في الدنيا، أفرزت قيما إنسانية و نيرة ، بيد أن خطاب البوعزيزي لا يعدو أن يتجاوز  الاستذكار المتباهي الذي  يحيل دوما على المقدس و العقدي عندنا( غير القابل للنقاش) فيحتمي به   درءا للمجادلة و المساءلة الحارقتين.

 

      إن مقالي بوجليدة و ابن الطيب يبدّدان تهيّبي ، كقارئ ،من جدوى مراجعة  النصوص النهضوية،بل يزيدني ذلك قناعة بأهميتها كلما كان الخطاب الدارس واع بالفجوة المعرفية بينه و بين الخطاب المدروس . لكني أبقى على خشيتي من هذا التوجه العام في المجلات العربية الآن، لأنها توظّف له  طاقات بحثية هائلة و كأنها تختزل فكر التحديث في المدونة النهضوية  وفي ما  أفرزته ستينات القرن الماضي مهملة، إلى حد التجاهل المحقّر أحيانا، ما يعتمل اليوم  في الساحة الفكرية من محاولات  فردية لدى مثقفين مشارقه و مغاربة  لبعث وعي حداثي جديد بعد الانكسارات السابقة. لا أشير هنا إلى تلك  المسارات  المتميزة لكل من  العروي ،  الشرابي ، جعيط و  أركون فحسب، بل أيضا إلى ذالك الشتات من القول على أعمدة الصحف اليومية لأدو نيس في "مداراته" العاصفة،لأنسي الحاج  ومحمد بنيس في تأملاتهما الصادمة و المأزومة،  في المقالات المتشائلة   لالياس خوري، عزت القمحاوي و عقل لعويط .

لعل إدراج نص لأدوار السعيد في آخر هذا العدد من الحياة الثقافية يؤشر إيجابا على هذا التوجه الذي ننشده و يعد بمحاور جديدة و مجدّدة في  مستقبل الأيام .

                                                                                     شعبان الحرباوي