طارق الشيباني، حكايات لا تهمّك، دار زينب للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2017، السعر: 12د.ت ، 9789938921571.

 

صدرت في أواخر السّنة الفارطة المجموعة القصصية الأولى للرّوائي طارق الشيباني، حكايات لا تهمّك، بدار زينب للنّشر والتوزيع. لايخلو عنوانها المُشاكس من مراوغة بلاغية إذ يتظاهر المؤلّف بتنفير القارئ منها فيما يسعى إلى تحفيزه على قراءتها وترغيبه فيها.

لقد كرّس طارق الشيباني في مجموعته مبدأ التنوّع على كل الأصعدة فهي تتألّف من عشرين قصّة مختلفة كتابة وحجما حيث تتراوح جلّها بين ومضات سردية خاطفة لا تتعدّى الثلاث صفحات وبين نصوص أخرى طويلة وذات نفس روائي تتجاوز الخمس عشرة صفحة. كما تنتمي شخوصها إلى أوساط متباينة وأزمنة متباعدة بعض الشيء، منها المعاصرُ لنا ومنها رموزٌ ضاربة في القِدَمِ استوحاها الشيباني من الذّاكرة الشعبية ومن ألف ليلة وليلة. وكأنّني به قد جعل من مجموعته وَرْشَةً يجرّب فيها صِيَغا شتّى في القصّ، فهولا يُعير لوحدة مواضيعها اهتماما كبيرا بقدر ما يحتفي بضروب الحَكِي التي ضمّنها في كتابه. وخلافا لما قد يوحي به العنوان، «حكايات لا تهمّك"، من عدم اكتراث الشيباني بقارئه، فقد سعى، في جلّها، إلى مغازلته ليُشَرِّكَهُ في هذا الاحتفاء ويطوفَ به في عوالم السرد الفسيحة.

لكنّه أبقى على رابط خفي بين حكايات(ه) نستشفّه عبر مسيرة أبطاله، فقد جعل من بحثهم اليائس عن السعادة قاسما مشتركا بينهم وبين الرّاوي الرئيسي الملقّب ب «المواطن" والذي يحكي بضمير المتكلّم كوابيسَه الليليةَ في "تاريخ وفاتي" ويتذكر محنةَ خِتَانِه في "العصفورة الموهومة" كما يروي، في "شفرة الجسد"، تجربةَ حب فريدة خذلها موتُ الحبيبة، كان قد عاشها في مستهل شبابه. في واقع الأمر، لا يقُصُّ"المواطن" أحداثا بعينها بل يسترجع ذكراها ويتوقف عندها متأمّلا تبعاتها النفسية والوجودية على مزاجه، فيغوص في أعماق ذاته المكلومة متلمّسا مواطن الوجع فيها: يستنجد طورا بطبيب نفساني (" المريض") ويستعين، طورا آخر، بقارورة خمر تُتَعْتِعُهُ فينقطع لنفسه بعيدا عن صخب الشارع ("السّكران").بيد أنّه دائمُ التذمّر، في هذه القصص وفي غيرها، حتّى بات تبرُّمُه من المخلوقات والأشياء حالة فيزيولوجية مُزمِنة لديه. بين القصّة والأخرى، ينفعل "المواطن" بسرعة كبيرة كما لو أنّه أُصِيبَ فجأة بحكاكٍ أو بالتهابٍ فأفسد مزاجَه وأعالَ صوابَه. إنّه يكفُرُ بالبعوض والقيظ كفرا لا يضاهيه شدّة إلاّ مَقْتُهُ لشخوص ثقيلة الظل لا تنفكّ تؤرِّقَه في المنام واليقظة.

إذا سلّمنا مع رولان بارط بأن متعة القراءة لا تُخْتَزَلُ في ذلك الشعور بالاستحسان الذي يغمرنا عندما نفرغ من أثر جيّد، بل هي أيضا تفاعل يقوم على الشدّ والجذب بين القارئ ونصّه أثناء القراءة، فإنّي أُقِرُّ بأنّ تفاعلي مع نصوص الشيباني يضعف ويشتدّ من قصّة إلى أخرى لأنّ المجموعة بدت لي غير متجانسة على المستوى الإبداعي والفنّي. لقد شدّتني جل حكايات لا تهمّك، ولكن بدرجات متفاوتة جدّا. لا أخفي أنّي مررت مرور الكرام على " من أدب الأعقاب" و"الملحد" أميمة فاطمة «و"مريم المجنونة" التي تنتمي، على الأرجح، إلى بدايات طارق الشيباني في مجال الكتابة السّردية. وهي، في كلّ الأحوال، تتباين تباينا جليا مع قصص أخرى تطرّق فيها الشيباني إلى ظواهر مجتمعية وإشكاليات فكرية راهنة وتناولها تناولا سرديا مُسْتَحْدَثا وعميقا يُحِيلُ على تجربته الذاتية كمواطن وكاتب، الآن وهنا. في قصّة "الطّاعون"، مثلا، وضع الشيباني على محكّ النقد مكسب «حرية التعبير «الذي أتت به الثورة والذي اعتبره العام والخاص حقيقتها المقدّسة. لقد أخذ الكاتب مسافة من تلك المسلّمة التي روّجت لها المنابر الإعلامية ليكشف عن الوجه الآخر للواجهة فصَوّر بطريقة مسرحية الاسهالَ الكلامي الذي أصاب التونسيين منذ الرابع عشر من جانفي 2011 مبيّنا كيف استحال التواصل بينهم لغوا وتفشت بين فئات المجتمع ولدى نُخَبٍه غوغاء عارمة كالطّاعون. لم يسْعَ الشيباني بعنوانه المجازي إلى التشكيك في مبدإ "حرّية التعبير والتفكير" وإنما أماط اللثام عن ممارسة خرقاء ومرضية للخطاب لدى جلّ التونسيين أودت، أو تكاد، بالحرّية وبكلّ أخواتها.

تطرح «الحياة الخاصة للسيدة نون «إشكالا مجتمعيا آخر لا يقلّ خطورة عن الأوّل ويتمثّل في التحولات الكبرى والمفاجئة التي أحدثها " الفايس بوك" في حياة النّاس. اختار الشيباني كبطلة لهذه المغامرة الفايسبوكية شاعرةً تونسية مبتدئة عوّلت على شبكات التواصل الاجتماعي للترويج لأشعارها وتلميع صورتها لدى متابعيها على صفحتها الشخصية، حيث ما فتئت تسوّق لشِعْرِها متوسّلة في ذلك بصورها الشخصية وبعض معطياتها الذّاتية وحتّى الحميمية منها. فتداخل إنتاجها الأدبي مع حديث الغواية الفايسبوكية واختلط حابلها بنابلها.

ذكرْتُ هذين المثالين كعيّنةٍ من القصص التي تحمل ملامح تجربة الشيباني المخصوصة وتعبّر، في نظري، أكثر من غيرها، عن مجهوده الإبداعي في مجال السرد القصير. قد لا تغرينا كثيرا في حكايات لا تهمّك، فراهةُ الشيباني السردية وقدرتُه على تنويع أساليب القصّ، ولكنّها تكشف عن جوانب من كتابته بالغة الأهمّية لم تنل حظها في هذه المجموعة ويبدو أنها لم تَحظ بعد باهتمام الكاتب لينزّلها في مسيرته كمشروع أدبي بعينه. يخرج الشيباني في " سبعة أرواح... ولكنّك لست قطا" و"مقتل ساعي البريد" و "عطور بلا رائحة" عن السرد الأدبي المعهود ليكتب في النمط البوليسي ويبرهن على حذقه حذقا بيّنا لتقنيات الكتابة السنيمائية والأدبية التي تتميّز بها الرّواية البوليسية إذ وظّف الشيباني فيها، بسلاسة كبيرة، عناصر تشويق عديدة مثل المفاجأة والطقوس المشحونة والغموض المُتعَمَّد. كما أنّه أضفى على حبكة الأحداث البوليسية في "عطور بلا رائحة" بعدا فانتاستيكيا يذكّرنا بحكايات وأفلام الخيال العلمي.

لقد تجاوز في هذه القصص الثلاث، على قصرها، مرحلة التجريب واكتسب حرفية كفيلة بأن تؤسِّس لمشروع في هذا الجنس الأدبي سيكون واعدا إذا حاز رغبة ذاتية من طارق الشيباني. صحيح أنّ المكتبة التونسية والمغاربية والعربية تفتقر اليوم إلى القص البوليسي. لكن وجب التوضيح أنّ هذا الاقتراح ينبع أساسا من قراءة متأنية لتجربة الشيباني في السرد، قصيرِه وطويلِه، و لا يستند إلى تلك المُحَفِّزات الانتهازية و المَمْجُوجَةِ ك"واجب سد الشغور" أو " انتهاز الفراغ الحاصل" إلخ.

فمتى سيخرج علينا الشيباني، ضمن سردياته الأدبية القادمة، برواية بوليسية تونسية الملامح والطقوس؟

شعبان الحرباوي