حسن بن عثمان،  تونس السكرانة، دار "نحن" للإبداع والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 263 صفحة، الثمن:20 دينار، ISBN : 9789938958300

 

في نظر الذين لم يطّلعوا بعْدُ على آثاره المكتوبة، لا يعدو حسن بن عثمان أن يكون  سوى وجه إعلامي خفيف الظل  ينزع إلى الهزل الجاد ويستشيط غضبا من الأفكار الجاهزة واللغة  الخشبية. أحيانا،  تثير حماسته المتشنّجة لدى مشاهديه ومستمعيه ومحاوريه استغرابا مشفوعا بابتسامة لأنّهم خَبِروا الرّجلَ وأدركوا  طينته جيّدا: إنّه مطبوع  على حسّ الفكاهة وموسوم بروح الدّعابة. وقد عمّق فيه شغفُه الطويلُ بالشأن الثقافي وعيا  حادّا بمكانة االثقافة الكونية المعاصرة. يستميت في الدّفاع عن آرائه بقدر ما يقرّ بنسبيتها ويحافظ، عندما يحاور الآخرين، على تلك المسافة الصحّية بينه وبين نفسه، بينه وبين بنات أفكاره. في الحصص الإذاعية والتلفزية، يشتقّ حسن بن عثمان لنفسه  مداخل للنقاش لا تخطر على بالك قطّ. كما يعسرعليك، عندما يحمى وطيس  الكلام، أن تتبيّن إن كان  يصوغ آراءه بسابق إضمار وبعد طول تمعّن  أم إنّها  وليدة ساعتها تنساب تباعا وكأنّه يرتجلها ارتجالا.

 

 

قد ينسينا حضوره التلفزي المتفرّد بعد الثورة كتاباتِه بوجهيها الصحفي والأدبي. إذ راكم منذ الثمانينات تجربة ثرية في هذين المجالين  جعلت منه روائيا مجدّدا وصحفيا جسورا. بيد أنّ صورته في الاعلام السمعي-البصري ، وإن جاءت معبّرة عن  جوانب عديدة من شخصيته كإنسان وصحفي، إلاّ أنّها قد تكون غيّبت أبعادا مهمّة من المجهود الذي ما انفك يبذله في كتبه  لتفكيك الذهنية التونسية. فالفضاء السمعي -البصري لا يوفّر تلك المساحة الفسيحة التي توفّرها له الكتابة  والتي تمكّنه من بناء أفكاره والتعبير عن هواجسه بالدّقة المرجوّة، لا سيما عندما تكون هذه الأفكار وهذه الهواجس عصيّة على القول المباح وصادمة لما يسمّى ب"الأخلاق العامّة".

في كتابه، تونس السكرانة، الصادر في طبعته الثانية هذه السّنة، يتناول حسن بن عثمان بالسرد والتحليل  تجربته الذّاتية مع الخمرة وصلاته العديدة برواد حانات العاصمة  من كتاب ومبدعين طيلة العشريات الفارطة كاسرا بذلك الطوق السميك الذي يحاصر الخمر وشاربيه في ثقافتنا. وكأنّي به يسعى، في ما يسعى إليه، إلى رفع  الحرج المُنافِقِ عن النخب الفكرية والسّياسية التي تتكتّم  على تجاربها الخمرية  خوفا على السمعة من الخدش.

1- الذّهنية البائسة

صحيح أنّ موجة التحرّر النسبي التي هبّت على المجتمع المدني التونسي بعيد الثورة   قد أباحت الحديث في المخدّرات والاغتصاب والمثلية الجنسية وغيرها من المحضورات. فبدأ الخطاب العام، الإعلامي منه بالخصوص، يطرحها كقضايا مجتمعية تفرض نفسها وتستوجب ، قبل التفكير في الحلول، أن نكفّ عن نكران وجودها. لكنّ الأمر يبدو أكثر تعقيدا كلّما تعلّق بالخمر. فالكلّ  يعلم أنّ علاقتنا بالخمر، نحن معشر التونسيين، كانت و لا تزال علاقة مُلتَبِسة، نتحاشى الخوض فيها ليس لأنّها تدخل في خانة الممنوع الدّيني فحسب بل أيضا لأن "الذهنية الوطنية" سيّجت الخمرة بدّلالات سلبية  تُحَقِّرُ من شأن شاربها  حدّ استهجانه وانتهاك إنسانيته. فالمشروبات الكحولية في تونس، كما يقول حسن بن عثمان في تونس السكرانة،" هي من المُنْكَرات الشعبية" التي تقوم على مفارقة غريبة:  نحن نشجب شُربَها جهرا ولكنّنا"نتحايل عليها خلسة" لنقتنيها بطرق شتّى تؤشّر  على استهلاك واسع لها في كلّ الأوساط الاجتماعية. فل"ولد العنبة" خلاّن كثر في ربوعنا، وقد تزايد عددهم بعد الانتفاضة. يقتنون حاجاتهم من المشروب  العجيب  عبر مسالك تجارية معلومة كالمغازات الرئيسية بالمدن الكبرى. في غياب الحانات، يباع  خلسة خلف أبواب دكاكين ليلية بالأحياء الشعبية وكثيرا ما تكون البضاعة رديئة ومغشوشة. وقد كان  التعتيم الذي يحِفّ بالخمر لدى العامّة والخاصّة حافزا لإنجاز هذه المحاولة الفكرية: يوضّح بن عثمان أنّ "هذه النوعية من الكتابة والاستقصاء التي أباشرها عن موضوع الخمر في البلاد تعتمد على تجارب شخصية لكاتبها، وينقصها التوثيق والمراجع والمعطيات الدّقيقة والشهادات الشاهدة".

لا يطمح كاتب هذه المحاولة لسد فراغ معرفي في باب الخمر، بل هو لا يدّعي ذلك وينأى بفصول كتابه السّتة عن التبويب الأكاديمي. بيد أنّ شهادتَه تُحاذي السّيرة الذاتية بل وتتجاوزها أحيانا  لتتّخذ بُعدا أنتربولوجيا حول قضية مجتمعية وحضارية غيّبتها ذهنية التحريم عن مراكز البحث العلمي. كما فعلت هذه الذهنية فِعْلَتها المٌدمِّرة، ولا تزال، في ضمير من يشرب الخمر ومن يبيعه على حدّ السواء. إنّ الشعور بالإثم، في هذا المجال،  شعور قديم  قد ازداد  اليوم تأزّما بعد أن تفشّت  ظاهرة ما يسمّى ب"الإسلام السياسي": نحن ننزع، كبقية شعوب العالم،  إلى الاستمتاع بما لذّ وطاب من أكل وشراب وبما جادت به علينا كروم إفريقية منذ أن كان جدّ نا " الفلاح القديم"، ماقون، يتفنّن في العناية بالأشجار المثمرة، خاصّة بالعنب ومشتقّاته. لكنّ خطاب الوعيد، المُحَرِّمَ للخمر وملذّات  الحياة الدّنيا،  فاقم اليوم من أزمتنا الروحية فأفرز سلوكا انشِطاريا لدى جُلِّ من يتعاطى الخمرَ شُربا أو تِجارةً. يسوق حسن بن عثمان في كتابه أمثلة عديدة لشخوص  تعاني من هذا الوعي البائس ويتوقّف طويلا لوصف الفُصام(السْكِيزُوفْرِينيَا) الذي ينتاب بائعي الكحول: في سعيه  إلى تبييض الأموال الحرام عند ربّه الأعلى، ينتهج صاحب الحانة سلوكا ساديًّا وغريبا إزاء حرفائه من "السُّكَارْجِيّه"، إذ "يوغل في التنكيل بهم ليقتصّ من الحرام في زبائنه الذين يعتبرهم أولاد حرام، ويشربون في مشروب حرام، وعليه أن يهينهم ويذلّهم ويعتدي على كرامتهم وأموالهم التي يصرفونها عنده".

2- الحانة  وأدب البهجة

في واقع الأمر، يصعب على قارئ تونس السكرانة أن يصنّفه تصنيفا أدبيا دقيقا لأنّه كتاب مفتوح على ألوان من الخطاب يراوح فيها حسن بن عثمان بين الكتابة  الانطباعية والذاتية  الصِّرفة وبين الاستقصاء الصحفي المسنود بدُرْبة مهنية في التحليل والنقد. بين هذا اللّون وذاك يتفسّح بن عثمان مَرِحًا في رحاب اللغة ليستقرىء معاني السُّكر ودرجاته وطقوسه المخصوصة فيقبل على وصف اللّذّات الحسّية والفكرية للخمرة بشهيّة لغوية فائقة. كلّما شرعنا في قراءة  تونس السكرانة أحالتنا تجربة مؤلّفه الخمرية  على  تجارب شبيهة بها عاشها كتّاب آخرون وكأنّي ببن عثمان يحيي، عبر سردياته الخمرية،  مسارا مشتركا أو يستذكر عادة تونسية حميدة : عندما كان حسن بن عثمان يتجوّل بين حانات العاصمة  كان حسونة المصباحي، أثناء حِلّه وتِرحاله في أوروبا آنذاك، يرتاد مطاعم وبارات مونيخ وباريس وبرشلونة ليس بحثا عن ما لذّ من نبيذ تلك العواصم فحسب، بل أيضا  ليكرع من ثقافاتها المُلهِمة فتحوّلت تلك الفضاءات العامّة  إلى علامات مضيئة في رواياته و يومياته . بين سردية وسردية من تونس السكرانة، تلوح كذلك ذكرى الدوعاجي البهيجة في جولة بين حانات البحر المتوسّط.

لأنّه يتناول حقبة طويلة من  حياة الأديب ومجايليه ،  يكتسي  كتاب تونس السكرانة بعدا توثيقيا في المجال الثقافي،إذ يرصد ظاهرة تونسية  مخصوصة ترتقي  إلى مرتبة الحقيقة التاريخية: لقد لعبت حانات العاصمة  دورا محوريا في تشكّل الساحة الثقافية  من السبعينات إلى أواخر التسعينات. يروي بن عثمان، فضلا عن فعاليات  المآدب واللقاءات الرّسمية، تلك "القعدات" الخمرية التي جمعته بالمُبدعين  وأضحت بتواترها في الزمان والمكان مجالا حرّا يتواجدون فيه فكريا، يَقِيهم أحيانا  من "الكُبّي" الجماعي و من منغّصات السلطة بكل أشكالها. كانت خمّارات شارع الحبيب بورقيبة، كما يصوّرها حسن بن عثمان،  تعجّ مساء بالذين أصيبوا ب"لوثة الفنّ"،  كتابا ورسّامين. وكانت  دار الصحفي ودار الكاتب وفضاء بوعبانة امتدادا لها،  فهي فضاءات تحمل يافطة  مهنية وثقافية، لكنّها في واقع الأمر لا تختلف كثيرا عن أجواء البارات المليئة بالواشين و"المُهَنّدين" والمنافقين وأرهاط شتى من "اللون البشري". بيد أن بن عثمان لا يصور ندماءه الصحفيين والمبدعين في مظهر الضحية: يركّز على هشاشة أوضاعهم الشخصية والمهنية  دون أن ينخرط في خطاب التظلّم الفئوي الرّتيب،  بل إنه يذّكر ، بشيء من الاعتزاز،  بتلك المعوّقات التي تشهد على تحدّي مبدعين كُثر لصلف السلطة مثل الشاعر الصغيّر أولاد أحمد والرّسام الكبير محمود بوعبانة. لم يَسْلَم حسن بن عثمان، هو أيضا،  من محاولات  الاحتواء السياسي في زمن بن علي ومن حملات التبخيس تحت حكم الإخوان. يرويها دون أن يضفي على مقاومته الفكرية والفنّية لها صفة "النضالية"، ربما تبرّما من نعت تسربل به بعد الثورة كلّ من هبّ ودبّ. ولعلّه أيضا يتحاشى أن يُوهِمَ قارئه بعذرية أو نقاوة إيديولوجية لا يدّعيها لنفسه. فالرّجل، وإن انتصر دائما للتقدّم والعصرنة،  فهو يبغض الاصطفاف السياسي كما أنّه يسخر من النمطية الفكرية والأخلاقية  ناهيك أنّه حاور في كتابه الشفيق جرّاية، الشخصية المثيرة للجدل على كل الأصعدة.

3- الخمرة في صحيح البخاري

في خاتمة تونس السكرانة، يكثّف حسن بن عثمان مساءلته للمدوّنة الفقهية(القرآن- السّنة) موضّحا أنّ الاسلام حرّم السّكر لأنّه مظهر من مظاهر الافراط المُخِلّ بكرامة الفرد وبالقيم الجمعية. ويجتهد في استقراء النصوص والمواقف التي تُحِلّ شربَ الخمر وتلك التي لا تصرّح بتحريمه، مُسْتَظِلاّ في ذلك بمقولات المفكّرين  المختصين مثل محمّد الطالبي. نعلم أن حسن بن عثمان، عندما يخوض في الأحكام  الفقهية المتعلّقة بالخمر، إنّما ليؤكّد على أهليته كمثقف و أحقيته كمواطن مسلم لتأويل النصوص الدّينية كي لا تبقى معانيها حِكْرا على الفقهاء. لكنّ هذا الحِجَاجَ  الختامي يشكّل سلاحا ذا حدّين،  إذ يعيد قضية التونسي مع الخمر إلى دائرة  الحلال والحرام ويضع، بالضرورة، "اجتهاد" بن عثمان وغيره من المُحدَثين في خانة الفتاوى. وكأنّي بحسن بن عثمان  يقرّ، في نهاية المطاف، بعلوية المدوّنة الفقهية على حياة الناس، رغم أنّه نجح عبر فصول كتابه في تفكيك المنظومة السلبية  من الدّاخل مستندا إلى تجربته الحياتية والفكرية.  يتوفّر كتاب تونس السكرانة على قّوة  معنوية وثقافية هائلة تدفع نحو تطبيع العلاقة بين التونسي  والخمر. لقد استمدّ  هذه الطاقة الإيجابية من مبدإ إنساتي بسيط يتلخّص في  انّ حبَّ الخمرة  من حبّ الحياة. لذلك كانت الحانة ولا تزال رافدا مهمّا  لأدب البهجة في الثقافة التونسية، وإن تفقّه المتفقّهون.

 

شعبان الحرباوي