حسّونة المصباحي، لا نسبح في النهر مرّتين، رواية، دار الآداب ، بيروت، الطبعة الأولى،2020 ،302 صفحة،

ISBN :978-9953-89-668-7

 

إذا سلّمنا، بعيدا عن نظرية الإلهام الرّومانسية،  بأنّ المبدع يتوفر على قوّة دفع خفيّة تحفّز مخياله وتستنهض قدراته الفنّية، فإنّ الرّافعة الخلفية لكتابات المصباحي تكمن أساسا في  علاقته المأزومة بالذّاكرة التونسية. لقد جَرَت مياه كثيرة تحت الجسر منذ أن أصدر روايته الأولى هلوسات ترشش سنة 1995. فتعدّدت، بعد ذلك، شخوصُه وتنوّعت تجربتُه السّردية شكلا ومضمونا. لكن تاريخ تونس كان حاضرا بكثافة في جلّ مَحْكِياته. يذكّر المصباحي بهذا الترابط العضوي بين مسيرته الذّاتية وأحوال البلاد في أشواك وياسمين (2015)قائلا:" إلى أيّ مكان أذهب شرقا أم غربا، شمالا أم جنوبا، أحمل بلادي معي....أحملها بكلّ ما فيها من جميل ومن قبيح، من قديم ومن حديث". رغم أنّ علاقته بالشأن العام متعدّدة الأبعاد، يبدو أنّ مُرَّها كان طاغيا على حُلوِها وأنّ قبيحَها، لا سيما في السّنوات الأخيرة، قد أفسد على المصباحي التمتّع بجميلها. بل إنّي أكاد أجزم، كقارئ مثابر لأعماله، أنّه لو جنح إلى المهادنة مع تاريخنا لَفقدَ الرغبةَ في الكتابة أصلا. ولأنّ مِحَننا لا تنتهي، فأنّها تلازمه ملازمة الحَدَبة لظهر البعير. لقد اكتسب  المصباحي، في  حلّه وترحاله بين مدن العالم وثقافاته، مسافة جغرا-فكرية تمكّنه من أن  يرى حَدَبات بني وطنه. إن قراءته النقدية لانتفاضة 14 جانفي في أشواك وياسمين قد كشفت له عن  مطبّات تاريخية  أخرى ما كان له أن يتفطّن إلى كل أبعادها الخطيرة  لو لم يكتَوِ بنار الخيبة طيلة العشرية الفارطة.

 

 

 

 

في محكية لا نسبح في النهر مرّتين، كان المفكر عمران يقيم بباريس وتعوّد أن يقّضي استراحته السنوية  بمدينة ساحلية  تقع شمال تونس حيث التقى سليم وعزيز. ثمّ توطّدت صداقتهم رغم فارق السّنّ واختلاف المسارات بينهم. فيما كان  سليم، قبل محنة 2011 ، شابا ثلاثينيا مقبلا على الحياة ومحبّا لشغله ولعائلته  كان عزيز شيخا متقاعدا  يعيش وحيدا ويعاني عزلة نفسية حادّة. أما عمران، بطل الرّواية، فهو كاتب بارز عُرِفَ بإنتاجه الغزير وبمواقفه الدّاعمة لقضايا الحرّية والعدل في البلاد العربية وفي العالم . في الواقع، لن نعثر في نصّ الرّواية على تحديد صريح لِسِنّ عمران ولكنّنا نتبيّن من الأحداث أنّه أكبرهم. لقد عمّر عمران فشارف الثمانين سنة ولعلّه جاوزها لأنّه واكب أهمّ مراحل تاريخنا السياسي الحديث. إذ شارك  في استقبال الزعيم بورقيبة يوم 1 جوان 1952 ولفحته  نار الحرب الأهلية(1955). ثم هاجر في بداية الجمهورية الأولى ليعود إلى تونس بعد غياب طويل . لكن سرعان ما اضطرّه استشراء العنف في السنوات التي تلت الثورة "المجيدة" إلى قطع إجازته فيها والرحيل من جديد. وخلافا لما قد يوحي به اسمه، فلقد عاش عمران انكسارات داخلية عديدة  فضلا  عن معاينته،  كشاهد على العصر، لانتكاسات وطنية كبيرة بدءا بملابسات الاستقلال الدّاخلي والتنكيل بالبايات ، مرورا بقمع المعارضين في عهد بورقيبة ، ووصولا إلى سقوط بن علي  ثمّ الكارثة السّياسية والمجتمعية الرّاهنة .

عندما يستعرض المصباحي مسيرة شخوصه الثلاثة، عمران  وسليم و عزيز، فإنّه لا يستحضر المحطّات الرئيسية من  تاريخ الدّولة الوطنية  (1952 – 2011)  رغبة منه في تصحيحها أو في التوثيق لها بقدر ما يعيد سردها ليستبطن همومها استبطانا عميقا ويتشبّع بآلامها علّه  يستلهم من وجعها أفكارا-مفاتيح تفك شفرة الاضطهاد بكل أبعاده الفكرية والسياسية والنفسية . كما أنّ تركيزه من جديد في لا نسبح في النهر مرّتين على أشواك "ثورة الياسمين" يوحي بسماكة هذا الحدث الإشكالي وكأنّ محنة2011 التي  لا نزال نعيش اليوم تبعاتها السّياسية والفكرية ما فتئت تستفز ذكاءه. بل أنها استحالت امتحانا حقيقيا لمدى قدرته، كأديب ومفكّر، على استجلاء حقيقة المرحلة.

ضيق الفضاء وسعة الفكر

بعد أن تفشّى في السنوات الأخيرة العنفُ المجتمعي باسم الدّين وأحكمت الجماعة سيطرتها على الحياة العامة، انقطع حبل التواصل المباشر بين الأصدقاء الثلاثة وأضحى كل واحد منهم قابعا بشقّته منطويا على نفسه وقد تملّكته رهبة كبيرة من الفضاء الخارجي. في كل صباح،  يروّضون أنفسهم على الخروج كمن يقوم بحركات إحماء قبل النزول إلى مبارزة ميدانية مصيرية. وكثيرا ما يعدلون عن مجابهة مخاطر الشارع  متعلّلين برداءة الأحوال الجوية  أو بتعكّراتهم المزاجية. فيما يُبدي  كل من عزيز وعمران شيئا من الجَلَد أمام  الهلع الجماعي، لم يَسْلَمْ صديقهم سليم من كوابيس الرؤوس المقطوعة  و"السّحنات العابسة" و"حاملي الرّايات السوداء" فتحوّل إلى "كائن عدواني، فظّ الطباع، صعب المعشر، بذيء اللّسان" واختلط ليله بنهاره  قبل أن يفقد كلّ مداركه العقلية.

لا أذكر أنّي قرأت لحسّونة المصباحي  نصّا بهذه القتامة. إنّ روايته الأخيرة مثخنة بكوابيس العزلة والانحباس وتحكي تفكّك الرّوابط المواطنية والعائلية بين التونسيين. كما تحمل في كلّ فصولها نُذُرَ الموت: يحيل عنوانها على النهايات و يقضّ هَوَسُ الاغتيال مضجعَ شخوصها. في خواتيمها، يعلو صوتُ  عمران محذّرا من نهاية قريبة للحضارة، وكانّه تقمّص دور العرّافة في مأساة إغريقية. فهل سلّم المصباحي في لا نسبح في النهر مرتين بقدرية الهزيمة على الطريقة اليونانية القديمة ونفض يديه نهائيا من "الحالة التونسية"؟

رغم أنّ جل الأحداث تعزّز، كما أسلفت، هذا الطّابع السّوداوي فإن المكانة الكبيرة التي يحظى بها الفكرُ ورموزُه تستوجب ألاّ نتعجّل التقييم وألاّ نختزل كل دلالات الرّواية في مظاهر الفشل. فإنّ التركيز على حالة الخذلان العام فيها قد يقلّل من شأن العاملين بالفكر بينما لعب الكِتَابُ دورا فارقا في حياة أبطال القصّة. لقد استعان هؤلاء بقراءاتهم لمقاومة ذهنية الخنوع الجماعي واستحضروا في نقاشاتهم شخصيات فكرية عُرِفت بمناهضتها للاستبداد و فعّلوا أفكار ديوجين  وكامو وكييركقار رافضين "فَرْمَطَة" العقول ومندّدين بالأدلجة الأصولية. فكلّما ضاق الفضاء العام من حولهم واشتدتّ عليهم حالة الانحصار، انكفأوا، كلّ من جانبه،  إلى أنفسهم وإلى رصيدهم الفكري. وكلّما توسّع الرّاوي في استعراض قراءاتهم للفلاسفة والأدباء وأعلام الثقافة المستنيرة، فتح أمام قارئ الرّواية اليوم أفاقا ثقافية رحبة محدثا بذلك شروخا عميقة في الخطاب المتطرّف. لقد أسهم الفكر الحر بدرجات متفاوتة في بناء شخصية كل من عمران وسليم وعزيز وشكّل عنصرا محدّدا في نشأة الصداقة بينهم.  يشدّد الرّاوي على أنّ تلك الآثار لم تكن بالنسبة لعمران وصديقيه مجرّد مراجع. ولم يطّلعوا عليها في شبابهم طلبا للمعرفة فحسب وإنّما كان يحدوهم أيضا، ولا يزال، توق جارف إلى الحرّية. " في سنوات المراهقة،  عشق(عزيز) القراءة ليجد فيها ما يخفّف عنه حدّة كوابيس المنام وأوجاع اليقظة(....)ثمّ أصبح يميل إلى قراءة الرّوايات التي يكون أبطالها شخصيات قلقة، تميل إلى الصمت والعزلة، وترفض الخنوع والإذلال والرضوخ لأوامر من يعتقدون أنّهم أسياد العالم". إنّهم يستذكرون "أهل القلم" بعاطفة جياشة  ويدافعون  عن ضحايا التعصّب منهم مثل سقراط وقارسيا لوركا وابن المقفّع وبشّار ابن برد، كما لو أن هؤلاء  أضحَوْا من ذويهم أو ممّن قاسموهم" الماء والملح".

لقد  انخرط المفكّر عمران منذ  أواخر الخمسينات في أهمّ القضايا  تونسيا وعربيا. وكانت المحصّلة المخيّبة لآماله تدفعه في كل مرّة إلى الرّحيل. ف"بات مقتنعا أنّ التاريخ العربي مثل صخرة سيزيف يرتدّ دائما إلى الوراء. وفي كلّ مرّة، يسعى فيها العرب إلى النّهوض، يصطدمون بالصخرة التي تفصلهم عن لحظة اليقظة، ليغرقوا مرّة أخرى في ظلمات ماض يأبى أن يرحل ليكون الحاضر والمستقبل".

لكن، رغم وعي عمران الشديد بأنّه يخوض معركة غير متكافئة ضد التسلّط المجتمعي والاضطهاد السياسي والفكري،  فإنّه  لا يكلّ في التشهير بالمظالم التي أُقتُرِفت في تاريخنا الحديث ولا يملّ المرافعة عن حرية الفكر والعقيدة وعن حق التونسيين في ثقافة تنويرية  حتّى وإن بدت له هذه القضايا، خاصّة في الأزمنة الحالكة، رهانا خاسرا. لذلك تراني أتمثّل عمران  أقرب إلى "سان جود" المسيحي(Saint Jude) منه إلى سيزيف الإغريقي. فكما يعلّق المسيحيون آمالا عريضة على سان جود  لحلّ قضاياهم الأكثر استعصاء بل وحتّى الحالات الميئوس منها،  فإنّنا نعوّل ، نحن معشر التونسيين والعرب، للخلاص من معضلة الاستبداد المزمنة، على الطاقة الإبداعية للمفكرين والكتّاب. إنّ عمران،  مِثْله مثل سان جود،  لا يُغيظُه  أن  يكون من الخاسرين ;:" فقد تعلّم من الكتب التي قرأها، كره كلّ أشكال السلطة، سواء تلك التي تمارس، أو تلك التي  يخضع لها الأفراد والجماعات كما تعلّم أن معركة أهل القلم ضد أهل السّلطة والنفوذ غالبا ما تكون خاسرة".

في معجم الحروب، لا يُعدّ رحيلُ عمران المتكرّر فرارا من المعركة وإنّما هو فَرّ يتبعه كرّ. فإذا كان "ليس في مقدورنا "، كما  قال هيراقليطس، أن نسبح في النهر مرّتين أو أن  نعيد عجلة التاريخ إلى الوراء لنعيشه  من جديد ونصحّح  مساراته، فإنّه بإمكان المفكّر ان يستعيد أطوار الماضي  وأن يُخْضِعها إلى المراجعة والتقييم. لذلك  سيسبح المصباحي في نهر تاريخ تونس وفي روافده مرّات عديدة طالما لم يستوف تحقيقه الفكري والرّوائي في مآسينا.

بين المصباحي  ومونتاني


لم تفاجئني في الرّواية  التقاطعات الكثيرة   بين حياة  الكاتب من حهة  وسيرة بطله، عمران،  من جهة ثانية. فكثيرا ما عمد  المصباحي في أعماله السّابقة إلى التشبيك بين المستويين جاعلا من تلك التقاطعات قنوات للتواصل بينه وبين شخوصه. بيد أنّ شغفَه  الكبير  بميشال دي منتاني في هذه الرّواية  استوقفني طويلا  حيث ما فتئ يحيل  على  سيرة هذا المفكّر مستشهدا بأقواله في  الاضطهاد  وفي الحريّة ومستلهما من رسائله دروسا في الحياة.

في 1570، كما نعلم، اختار مونتاني أن يستقرّ في حصنه الكائن بمقاطعة الدوردونيDordogne) (ليتفرّغ للكتابة وينأى بنفسه عن مغريات  السلطة ومفاسدها. لقد لاقى هذا السيناريُو هوًى قديما في نفس المصباحي. كان يحلم دوما بالعودة إلى مسقط رأسه ليتمّ المشاريع التي ألهته عن انجازها مغرياتُ الحياة بالمدن الكبرى . وتحقّق الحلم أخيرا.  فبعد أن أكمل كتابة لا نسبح في النهر مرّتين في 2018 بالحمّامات، استكمل بناء منزله الجديد على مرتفعات الذهبيات وأودعه مكتبته الكبيرة وأطلق عليه اسم "الزّهرة البرّية".  قد يذهب الخيال بنا بعيدا في المقارنة بين الحياتين. وقد يرى  بعض القرّاء   في تماهي هذا الرّوائي  مع نظرة  منتاني   ضربا من التقليد  أو تضخيما للذّات. غير أنّ المصباحي، وإن اعتدّ، كعادته، بانتمائه إلى حظيرة "أهل القلم"  مثل طه حسين ومونتاني  ودجويص  ومحفوظ،  فإنّه لم يبوأ  نفسه  موضع الرّيادة الفكرية. لقد استحضر في هذا العمل  رائدَا من رواد  النهضة الأوربية ل" يستضيء" بحكمته "في هذه الأيام الحالكة التي تعيشها" تونس آملا أن تساعده الإقامة بالذهيبات على مجابهة شيخوخته الزّاحفة وأن تريحه سكينةُ الرّيف الفسيح، ولو إلى حين، من كوابيس الذّاكرة التونسية.

 

شعبان الحرباوي