الهادي التيمومي، قيامة الحشّاشين، دار مسكيلياني للنشروالتوزيع ، 2020، 419 صفحة، تونس ، ر. د.م. ك: 5- 149-24-9938-978

أحرزت روايةُ قيامة الحشاشين الكومارَ الذهبي لسنة2021. وهي مرشّحة لنيل جوائز أخرى بعد أن ذاع صيتها بين قرّاء العربية. لقد أسند  التيمومي  دور البطولة فيها إلى حسن الصبّاح "شيخ الحشّاشين"  وأعاد صياغة سيرته في سردية شديدة التشويق وغزيرة المعاني.  عاش الصبّاح، الملقّب أيضا ب"شيخ الجبل"، في القرن الحادي عشر بالمشرق وقاد طائفة شيعية متشدّدة اعتمدت التقيةَ مبدأ لنشر دعوتها والاغتيالَ منهجا لتصفية الجماعات المناهضة لفكرها. و يُروَى كذلك أنّ الشيخ  وأنصاره قد تحصّنوا بقلعة ألمُوتْ في جنوب بحر قزوين واتّخذوا منها ملاذا لأتباعهم ومنطلقا لحملاتهم الدموية على أعدائهم. جغرافيا وتاريخيا،  ليس لهذا الشيخ أية صلة بالتونسيين إذ تفصلنا عن عصره ألف سنة ونيف، وعن موطنه مسافة تعدّ بآلاف الكيلومترات.

ما الذي حدا  بالتيمومي،  يا ترى، إلى أن يرحّل "شيخ التقتيل"  من أقاصي الأمكنة  وغابر الأزمان لينزّله في محكية  تدور أحداثها بتونس في مطلع انتفاضة شبيهة بما وقع في  2011 ؟

فيما كان أستاذ الآثار والتاريخ بالجامعة التونسية  يهيّئ أرضا لبناء منزله عثر على قبر قديم  به رفات و خنجر و ستّ رقائق. وتبيّن له بعد تصفّح الوثائق أنّها تعود إلى حسن الصبّاح إمام الحشّاشين وقد خطّها بيده وضمّنها "أوامر وأسرارا" لأتباعه. لكن سرعان ما ساءت حال الأستاذ الجامعي وتحوّل اكتشافه الأثري إلى خطب ما بعده خطب عندما تواصل مع المعاصرين من أتباع تلك الفرقة باليمن وطلب منهم مساعدته  على فكّ رموز المزامير. فما لبثوا أن لاحقوه حتّى عقر داره بتونس لاسترجاع وصايا شيخهم. وكلّما دقّق في مضمون تلك المزامير، ازداد اقتناعا بأنّه في بلية لا فكاك له منها وكأنّ حسن الصّبّاح بُعث من جديد وخرج عليه من قبره خروج المارد من قمقمه :"لا أحد يستطيع ربط هذه الأحداث المتنافرة وفهمها أكثر منّي: رأس المشكلة حسن الصّبّاح الذي تمطّى وتثاءب بعد ألف عام، فمزّق كَفَنَه وحطّم قبره واندفع خارجا بكلّ أحقاده. ثمّ ارتمى عليّ وأخذ بخناقي مدّعيا أني اغتصبت أرض أئمّة الفاطميين، وأنّ عليّ إخلاء منزلي فورا، وعلى أهل مدينتي وقراها إخلاء منازلهم ومزارعهم ليستوطنها شتات شعبه ". ازداد أمر الأستاذ تعقيدا بعد أن دخلت على الخطّ جماعة "البهرة" ، وهي فرقة مناوئة للحشّاشين وقد أرسلت، بدورها، عناصر في أعقابه لا تقل بطشا عن أتباع الصبّاح. ثمّ اتّسعت دائرة المطاردات لينخرط فيها البوليس المحلّي بالمدينة وجهاز المخابرات الوطنية التونسية.

جرفتني " أطوار الملاحقة" في هذه الرّواية واستهوتني" كمشهد من فيلم مثير"، فصرت أطوي صفحات الكتاب  طيّا لأتابع، بمتعة كبيرة، الأحداثَ المتسارعة في محنة الأستاذ. و لا أخفي أنّي قد تريّثت بعض الوقت في كتابة هذا المقال للتخفيف من حماستي لنصّها.

ما أشبه حاضرنا الدّاعشي بتلك الحقبة الدّامية من القرون الوسطى ! ذلك هو الانطباع الغالب بعد أن نفرغ من قراءة قيامة الحشّاشين. لست من هواة التصنيف ولكن التّداخل في هذه الرّواية بين التاريخ والخرافة الشعبية من جانب أوّل، والمزج بين أساليب السرد العربي القديم وتقنيات الرّواية البوليسية، من جانب ثان، يجيزان التساؤل حول جنسها الأدبي. فهل يُعدّ نصُّها أقرب إلى التأريخ منه إلى "التخريف" الأدبي؟ أم أنّ أخبار الحشّاشين الواردة فيه لا تعدو أن تكون محكية رمزية تحيل على العنف الرّاهن وتذكّر بجذوره الضاربة في القدم؟

 

لا شكّ أن التيمومي يسعى بهذا المزج إلى المراوغة وخلط الأوراق خلطا يُتيحُ له الاستثمار في الفواصل والحدود بين أنماط سردية مختلفة. رغم أنّ سيرة الصباح تحتلّ الحيّز الأكبر في قيامة الحشّاشين،  فإنّ وضعها في خانة" الرّواية التاريخية" لا يبدو لي تصنيفا منصفا لها وقد يقلّل من شأنها على المستويين الفكري عموما والأدبي خصوصا. تجدر الإشارة في هذا الباب أنّ  تاريخ فرقة الحشّاشين، على أهمّيته السردية ، لا يشكّل بحدّ ذاته المشغل الرئيس فيها، بل إنّ التيمومي، إذ يحيل باستمرار على المزامير  فإنّما يرمي إلى إيهامنا بطابعها التاريخي  وقد وظّف لهذا الغرض جوانب عديدة من الحكاية: استخرج البطل، وهو عالم أثار،  من القبر خبيئة ثمينة وأمضى، بمعيّة زميله، أوقات طويلة في فك الرّموز والرّسوم المصاحبة للوثائق المكتوبة  وعرّض نفسه للموت دفاعا عنها قبل أن يودعها بالمتحف الوطني.  فضلا عن أن نص الوصايا قد  ورد بالرّواية في شكل متون مستقلّة كُتِبتْ بالخط الفارسي وصِيغت بلغة عربية قديمة  لا تختلف  في بعض تعابيرها عن أسلوب التمائم والرّقى. إنّ التركيز على الطابع الوثائقي للرّقائق يعزّز الانطباع  بأن  السارد  يستقي أخبار حسن الصبّاح مباشرة من مكاتيب أصلية ترتقي  مصداقيتها  إلى مصاف وثوقية الأرشيف التاريخي. لا تخفى عنّا، من جانب آخر، الأبعاد الرمزية في محكية التيمومي عن  الأقدمين فهي تتضمّن عبرا ودروسا للمحدَثين . فحقبة حسن الصبّاح، كما وردت في الرواية، تشكّل منصّة  سّردية مفتوحة على الحاضر وتتقاطع فيها بالضرورة الأفعال التي اقترفتها"عصابة الخوجة"  بالأمس البعيد  مع  جرائم القاعدة وداعش وبوكو حرام اليوم .  ما انفكّ  التيموني  يدعّم هذا المنحى  ملمّحا، هنا وهناك، إلى  أوجه الشّبه العديدة بين أولائك وهؤلاء  وفاتحا،  بالتالي،  أمامنا مجالا واسعا للمقارنات  بينهم.

على كلّ، لك، عزيزي القارىء، أن تصنّف هذه الرّواية كما يحلو لك. لكن من المؤكّد أنّها ستأتيك بما لم تزوّدك به الدّراسات التاريخية و الإعلامية حول الجماعات الدينية العنيفة.ّ فالإرهاب معضلة حضارية أعقد من أن يستفرد بتناولها المؤرّخون أو علماء الاجتماع أو الإعلاميون. لأنّ  العمل الرّوائي يقوم أساسا على التخييل، فإن الرّوائي يستجيز ما لا يقدر عليه هؤلاء أو بالأحرى ما لا تسمح لهم  به ضوابط  اختصاصاتهم. فهو لا يكتفي  بتوصيف طقوس الإرهاب بل يعمل  على تفعيل مخياله فيها  ليملأ  الفراغات ويسدّ الفجوات  ويستحضر المنسيَّ من الأحداث ناهلا من كل مصادر الخبر بكلّ حرّية حتّى  يبدو وكأنّه  يمتهن في الآن نفسه حرفا متعدّدة . يشير التيمومي، على لسان شخصيته الرّئيسية في قيامة الحشّاشين، إلى تنوّع سبل التدبير ووسائل التعبير التي يتوفّر عليها الروائي قائلا:" اشبك الخيوط كنسّاج، وأصُفُّ اللبنات كبنّاء". بقدر ما أسلّم بداهة بضرورة المقاربات العلمية للإرهاب، فإنّي أعتقد أنّ تلك البحوث تبقى مادّة معرفية جافّة ما لم يُعِدْ عجنَها وصياغَتها كتّابُ الرّواية والمسرحية والسيناريو. بل لا أجد غضاضة في الإشادة بتفوّق بعض الكتّاب في هذا المجال تحديدا حيث تمكّنوا من نسج تلك الضفيرة الحيّة بين ظواهر الإرهاب وبواطنه، بين ماضيه وراهنه وابتدعوا في رواياتهم جسورا للتواصل عبر الذّاكرة بيننا وبين رموز الفكر الأصولي العنيف.  ما كنّا، سنتكشّف  بوضوح عن صلات الرّحم  ووشائج القربى الروحية التي تربطنا بمحمّد ابن تمرت لو لم يستدرجه طاهر دجاوون ،ليخرجه من كتب التاريخ وينزّله  في روايته L’Invention du désert حيث أخضعه سنة 1987 لمساءلة لصيقة ومباشرة . كما إنّنا نَدين  ليوسف زيدان بمنجزه الكبير  في عزازيل (2008) حول ألوان الترهيب الذي مارسته الكنيسة على الوثنيين بمصر والشّام في بداية القرن الخامس ميلادي. في روايته الأخيرة خوّنتانامو(2014)، ينفذ يوسف زيدان، من وراء قضبان ذلك المعتقل المشهور، إلى السّجن الباطني الذي يتخبّط فيه على السّواء المساجين من أتباع القاعدة وسجّانوهم من الأميركيين.


استنبط الهادي التيمومي، هو الآخر، في قيامة الحشّاشين بناء دراميا  من طقوس فرقة" الخوجة" ومن الظروف التاريخية التي حفّت بنشأتها. إذا كان عنوان الرّواية  يحيل على الاعتقاد الرّاسخ لدى تلك الفرقة الشيعية بعودة الإمام الأساس و بحتمية البعث من جديد للحلم الفاطمي ، فإنّه يشير أيضا إلى قدرة الرّوائي على ابتداع الأساليب الأدبية الكفيلة  بإعادة الحياة  لعضام حسّن الصبّاح  وهي رميم.  فتخال الرّجل قد نهض، في الرّواية، من سبات الموت وكأنّه قام بقدرة قادر.:"لم يعد الصبّاح إسما في كتاب أو خيالا في الزمن الغابر البعيد أقرأ عنه، فيما يذكر الرّاوي، بل صار غولا حاضرا، ماثلا بين يديّ بهيئة قرصان لا يرحم أو مجرم حرب" كما أنّ الهادي التيمومي قد جعل من مبدإ التقيّة الشيعي  خزّانا هائلا للتشويق واستثمر أي استثمار  في منهجهم القائم على التسلّل والتخفّي ليضفي على أحداث الرّواية أجواء ضاغطة ومليئة  بالتجسّس والتوجّس.

في الواقع، قد يطول الحديث في المواصفات البوليسية لهذه الرّواية وفي حبكتها التي تقوم أساسا على ركوب المخاطر وتفشّي الأفعال الشرّيرة من قتل واختطاف واحتجاز وغيرها. وكما هو معلوم، عادة ما تكون الجرائم في القصّ البوليسي مشفوعة بتحقيق دقيق في الأسباب والملابسات. لقد كابد أستاذ التاريخ كلّ هذه المحن وعاين بذعر شديد مشاهد التعذيب وسفك الدماء واضطلع في الحكاية بوظيفة مزدوجة تجمع بين دور الضحية ودور رجل التحرّي. إذ يجدّ في البحث عن "الأمارات  التوجيهيةوالإشارات التثبيتية" لفك طلاسم  وصايا الشيخ.  فكلّما تقدّم في استقرائها، الواحدة تلو الأخرى، تفاقم هلعه و تبيّن أن العنف المسلّط عليه شخصيا لا يعدو أن يكون تمظهرا بسيطا ل"إرث من الأحقاد والدّماء" كان أشدّ وأعظم في قديم الزمان وهو مرشّح إلى الانفجار من جديد على نطاق واسع.  اللافت في قيامة الحشّاشين أنها تضمر  تلازما بين مسارين:  ثمّة في بنائها  خيط  ناظم بين اطّلاع  البطل على مزامير حسن الصبّاح  من جهة واطّلاعنا، نحن معشر القرّاء، على  نص الرّواية من جهة ثانية،  وكأنهما فِعلان متزامنان ومترادفان.  فكلّما حقّق قارئ الرّقائق  في مضامينها ، تكشّف قارئ الرّواية على المزيد من الجرائم الصّادمة التي اقترفها فدائيو حسن الصبّاح  مثل قطع الرؤوس وبتر الأعضاء وبَعْج البطون. ولا شكّ أنّ هذا الضرب من الترادف  يعزّز فينا الشعور بالفظاعة إزاء مشهدية قديمة-حديثة، طافحة بالدّماء، قاسية المحتوى ورهيبة الوقع.

تشهد اليوم  مراكز البحث العلمي والإعلامي والمخابراتي  تضخّما معلوماتيا حول الحشّاشين الجدد، أتباع بن لادن والبغدادي والقرضاوي. فأصبحنا ، بالتّالي، أكثر إلماما بحواضنهم وبالظروف التي تمّ  فيها استقطابهم. فيما لا يزال السّؤال عالقا حول مدى انصهار هؤلاء في المنظومة الفكرية للجماعات المتشدّدة ومدى تماهيهم الفعلي معها. في الواقع، لا نعلم الكثير عن بواطن الأمور. إنّنا نفسّر تبنّيهم للعنف، فكرا وممارسة، بضعف مناعتهم الذّهنية والنفسية ضدّ التطرّف وبقدرة شيوخهم على تغيير السلوكيات وغسل الأدمغة وحشوها بفتاوى التكفير. قد يستقيم هذا الخطاب لِمامًا. لكنّه يبدو قاصرا أمام  تعقيدات المشهد الإرهابي، كما صوّرها الهادي التيمومي. لقد رصد، انطلاقا من سيرة حسن الصّبّاح، ثوابت الفكر الجهادي واستكشف ما يعتمل في خُلد  الإرهابي بشكل دقيق مفنّدا جوانب عديدة من تمثّلنا للظاهرة الإرهابية. على كلّ، في قيامة الحشّاشين، لا تُغْسَلُ العقولُ كما تُغْسَلُ الأواني ولا يَستبدل الإنسانُ أفكارَه وعواطفه بالسهولة التي يغيّر بها ملابسه. على المستوى الفكري، يؤكّد التيمومي في كل فصول كتابه على عمق الروابط الروحية بين الإمام الملهم وأتباعه. فبقدر ما يباعد الزمن بينه وبينهم،  يزدادون تبرّكا بذكراه وتشبّثا بوصاياه وكأنّ شعورهم بالفقْد يدفعهم إلى المزيد من البطش.

إنّ الإرهاب في ظاهره لا يزيد على الانخراط الآلي والمفاجئ في ماكينة التكفير والتقتيل، وفي باطنه استحضارٌ متجدّد لذاكرة دينية تقوم على الاحتراب الطّائفي وتُولِي سفكَ الدّماء أعلى مراتب الفضيلة وتبوّء "زعماءَ التقتيل" منزلة الأنبياء. يستمدّ حسن الصبّاح ومحمد ابن تُمرت وأيمن الظواهري قدرتهم على زرع الفتن  من" طفرة روحية وعقلية جبّارة، تجعلهم يأتون أفعالا ويعلنون نبوءات لا يمكن تفسيرها تفسيرا حسّيا ولا حتّى عقليا".

 

شعبان الحرباوي